ربما فرضت نتائج الانتخابات البرلمانية في بريطانيا على رموز المعارضة السياسية، ومن بينهم زعيم حزب المحافظين مايكل هيوارد أن يخلع قبعته لتأدية التحية لطوني بلير الذي أصر على أن يمضي في اللعبة السياسية حتى النهاية، مع إدراكه الشديد بأن محاولته هذه قد تبدو محفوفة بالمخاطر. إلا أن حسابات هذه المخاطر لا يمكن أن تصل إلى مستوى يهدد مستقبله ومستقبل حزبه، انطلاقا من عدة أسباب أولها أن الاقتصاد البريطاني لم يشهد من قبل مثل هذا الازدهار الذي بدأت الطبقة الوسطى تتحسسه في مجمل حياتها اليومية، وثانيها أن الخصوم السياسيين في أحزاب المعارضة لم يستطيعوا الوصول إلى المستوى الذي يمكنهم من قلب المعادلة السياسية بهذه السرعة، فهم لابد أن يحتاجوا إلى المزيد من السنوات لإقناع الشارع البريطاني بأنهم قد تغيروا فعلا، وثالثهما أن الحملة الإعلامية والسياسية التي اشتعلت ضد العمال وتحديدا ضد بلير بشأن حرب العراق أخذت تخف شيئا فشيئا بعد أن كثف بلير ادعاءاته بعدم التخطيط المسبق لها، لذلك لم تكن هذه القضية تهدده بصورة مطلقة كما كانت عليه في السابق. الانتصار الثالث لبلير يكفيه أن أدخله التاريخ كأنجح قائد عمالي مازال الطريق مفتوحا له لاعتلاء ولاية رابعة إن أراد ذلك، وإن بقيت الأوضاع البريطانية تجري بهذه الوتيرة من التقدم لصالح العمال.
النتائج الانتخابية أعطت العمال زيادة بنحو 70 مقعدا عن المحافظين، ولكن مع ذلك فإن المرحلة المقبلة ربما ستحاصر بلير كثيرا لتنفيذ جملة من الاستحقاقات التي سبق له أن أثارها في حملته الانتخابية، فهناك قضية الإصلاحات العامة في بعض المؤسسات الخدمية والإنتاجية وهناك أيضا قضية الهوية الشخصية التي تحمل طمغة الأصابع، إضافة إلى الخصخصة في الصحة والتعليم. ولكن مسألة الاستفتاء على الدستور الأوروبي الذي رفضه البريطانيون حاليا، تحتاج إلى عام لإثارتها من جديد، وعلى بلير أن يقنع البريطانيين بأهمية الموافقة على هذا الدستور، وبذلك يستكمل عملية الاندماج مع أوروبا، على أمل أن تحل المشكلة الأخيرة المتعلقة بتغيير العملة البريطانية "الجنيه / الباوند الاسترليني" واعتماد اليورو بدلا عنها.
ومع أن النواب الـ 160 الذين حصدوا تفوقا مريحا على المحافظين، وجعلوا بلير قادرا على مزاولة فن الدبلوماسية الداخلية في البرلمان وخارجه، فإن هناك من هؤلاء نحو 40 نائبا يجلسون على مقاعد حزب العمال في قاعة البرلمان، وهم يتربصون به وينتظرون هفواته بالمرصاد، فهم يعتقدون أن انخفاض شعبية حزب العمال يعود إلى بلير ذاته، لذلك فإنهم سوف لن يتسامحوا معه بأية حال من الأحوال، وخصوصا بعد أن بدأ يظهر بديل له في قيادة الحزب وهو غوردن براون. لقد سبق لبلير أن أعلن في خريف العام الماضي أنه سيخوض آخر تجربة انتخابية العام ،2005 بعدها سوف لن يحتفظ بموقعه في الحزب والحكومة.
وخلال الحملة الانتخابية وقبيل إجراء الانتخابات، أعلن وبشكل صريح، أن خلفه سيكون وزير المالية غوردن براون، الذي أخذ يظهر بصورة قوية وفعالة في مسرح الحياة السياسية حديثا.
ويدرك بلير جيدا أنه بحاجة ماسة إلى براون وإلى مساندته الآن أكثر من السابق، ففضلا عن الدور الذي لعبه براون في تعزيز واقع الاقتصاد البريطاني، فإنه أيضا يقود كتلة قوية من أعضاء البرلمان العماليين يصل عددهم إلى نصف الأعضاء تقريبا. وهذا العدد يجعل بلير في موقف حرج للغاية إذا ما تراجع عن وعوده في اختيار براون لقيادة الحزب والحكومة من بعده، فيما إذا استقال قبل إجراء الانتخابات المقبلة.
ومعلوم أن بريطانيا تعيش حاليا لحظات متتالية من الأخبار المتناقلة والمكتوبة عن الحوارات التي تدور خلف الكواليس بين بلير وبراون، وبعضها حوادث محتدمة. والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا، هو: إلى أي مدى سيذهب براون في مساندته لبلير، وخصوصا خلال الأشهر المقبلة؟ وبعض المحللين يعتقد أن جزءا من شعبية بلير وحزب العمال التي تحققت حديثا في النتائج الانتخابية، ترجع إلى تعاطف الشارع البريطاني مع براون، الشخصية الاقتصادية والسياسية الناجحة، فضلا عن تمتعه بكاريزما جذابة للغاية.
ويقول هؤلاء المحللون إن براون لو دخل الانتخابات المقبلة فإنه ربما يحصل على أصوات أكثر من الأصوات التي حصل عليها بلير، انطلاقا من تلك الأسباب.
وتشير بعض الصحف البريطانية إلى أن بلير قد خطط للإمساك بالرئاسة إلى نهاية المرحلة حتى حلول موعد الانتخابات المقبلة. بيد أن ذلك، بحسب بعض الآراء، سوف لن يتم كما يريد بلير، فبعد أقل من سنتين، وقبل الانتخابات سيغادر بلير موقعه لترك حيز من الوقت أمام خليفته للإعداد الجيد لخوض الانتخابات المقبلة والتي ستكون معركة أكثر شراسة على الغالب.
وأمام توجه العمال إلى الحفاظ على نسبة التأييد الشعبي لهم، استطاع المحافظون أن يحسنوا من نتائجهم الانتخابية، فالفارق بينهم وبين العمال ليس كبيرا جدا، فهو يبلغ نسبة 3 في المئة، ولكن عودة المحافظين إلى الحكم ليس يسيرا بأية حال من الأحوال، وقد يكونون أمام أمرين مستعصيين، الأول أن يراوغوا في طريقة الزحف البطيء في كل مرحلة انتخابية حتى وصول القمة، وهذا يتطلب مرحلة زمنية طويلة، ربما لا تتوافر أمامهم أية ضمانات متوقعة، أما الأمر الآخر، فهو أن يعتمدوا على أسلوب تغيير حزبهم ومناهجهم السياسية وخطابهم الشعبي، إذ ينبغي عليهم إقناع الشارع البريطاني بأنهم قد تغيروا فعلا، وهذا الأمر يتطلب أيضا أن يكون في قمة قيادة الحزب شخصية مقنعة للبريطانيين، ويبدو أن هنالك تيارا في داخل حزب المحافظين بدأ يفكر في هذا الأمر، بينما يوجد تيار آخر "ثاتشري" لا يريد التخلي عن قيم وتقاليد الحزب القديمة.
وأحدثت هزيمة المحافظين حالا من الإحباط ليس فقط في قواعد حزب المحافظين وإنما أيضا في قيادته، إذ فاجأ هيوارد الرأي العام البريطاني، حال إعلان نتائج الانتخابات، بأنه سيستقيل حالما يتفق الحزب على البديل له.
وبعد التصريح مباشرة، بدأ صراع في داخل المحافظين على من سيخلف هيوارد، وتعالت الأصوات أيضا في تعويض الدماء القديمة بدماء جديدة. الصراع على مقعد القيادة يمكن أن يبدأ في حزب الليبراليين الديمقراطيين أيضا، الذي حقق أكبر نجاح انتخابي في تاريخه منذ العام ،1929 ولكن عدد النواب لم يشهد نقلة نوعية كما كان يتمنى ذلك أعضاء القيادة.
فرئيس الحزب غارس كنيدي حقق هدفه وغير وجه السياسة البريطانية، لكن أعضاء في الحزب غالبا ما يطرحون أهمية أن يكون للحزب رئيس أكثر كفاءة في اتخاذ القرارات الحاسمة والجذرية.
ومن الممكن أن يحصل ثمة تغيير في قيادات الأحزاب السياسية الثلاثة الرئيسية خلال السنوات المقبلة، لكن الانتخابات المقبلة ستثير الكثير من المفاجآت بعد أن شهد الواقع السياسي البريطاني نضوجا مثاليا للغاية.
جورج غالوي الذي فاز على مرشحة العمال والمقربة من طوني بلير اونا كينغ، وجه بعد نجاحه في الانتخابات عن منطقة شرق لندن، كلاما قاسيا لبلير، قال فيه: "جميع الناس الذين قتلتهم "في العراق"، وجميع الأكاذيب التي أطلقتها، تعود إليك الآن لتقتص منك".
أحد الذين فازوا لأول مرة في تاريخ الانتخابات البريطانية، شاب أسود رشح عن منطقة "ويندزور"، واسمه آدم افريا، وسيكون الوحيد من ذوي البشرة السوداء وسط أعضاء البرلمان البيض
العدد 978 - الثلثاء 10 مايو 2005م الموافق 01 ربيع الثاني 1426هـ