"لا تكفي حتى أفضل نوايا الأم تيريزا، لكشف مصادر بؤس سكان الهند. يجب معالجة المرضى الفقراء، ولكن أليس من الأفضل إزالة أسباب الوضع المأسوي الذي وجد هؤلاء الناس أنفسهم فيه؟..."
اللاهوتي "انريك دوسيل"
تقول الأستاذة في جامعة كاليفورنيا باربره ابستين "إن أسبوع التظاهرات التي ألقت بظلها على قمة منظمة التجارة العالمية في سياتل، يجسد أحد أكثر الأوقات تحفزا عرفه اليسار الأميركي، وهو بإمكانه أن يفرض وجوده داخل الحركة الأوسع للدفاع عن الديمقراطية، ضد الأضرار التي تتسبب بها الشركات الكبرى المتوحشة العاملة على المستوى الدولي". في مظاهرات سياتل التاريخية، وقف طوني بلير وكلنتون موقفا رهيبا، فهما فيه تحديدا، ما معنى أن تكره البشرية تقنيتها وشركاتها الكبرى العابرة للدول والقارات، وهو ما كانا يعتقدان أنها تفخر به.
كنت قد ذهبت في مقالين سابقين إلى شرح أطر الممارسة للعلاقات العامة، ولذلك الدور الذي يجب أن تلعبه غرف التجارة والصناعة، ومجموعات الضغط، عبر التركيز على ما أسميته بالضريبة الأدبية لصالح المجتمع. الأحزاب الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية والمنخرطة حديثا في النظام الرأسمالي أحدثت طفرة خاصة في مفاهيم ما بعد الحداثة في العلاقات العامة، هذه الأطر الحديثة أتتبعها من خلال متابعاتي لمنتج راسم الجمال، أو خيرت عياد، اللذين فعلا يمثلان صورة الأكاديمي الباحث، المشغول بالمعرفة والتحليل والفهم، على رغم محطات الإحباط التي تصيبهما ما بين كل يوم وليلة.
تذهب المعارف المابعد حداثية إلى "أن المجتمع الذي سمح للشركات والمؤسسات بالوجود والكسب والربح، يتطلع منها إلى منتج فريد ومساهمة فاعلة في بنائه ونموه"، ولابد من التنبه إلى أن الصورة الحالية من الممارسة المغلوطة لهذه الأدوار، قد تحمل معها الربح الوفير لهذه المؤسسات والشركات، إلا أنها تحمل في الأفق البعيد احتقانا اجتماعيا، قد يظهر في صورة واضحة ومؤثرة سلبيا على هذه الشركات مستقبلا.
لابد من التنبه إلى أن الصورة في سياتل كانت واضحة لا تحتاج إلى تفسير، قمة بها تقف الإمبراطوريات المالية، بينما يصطف خمسون ألف مناهض لها يجوبون المكان، وبطريقة فنية وهادئة، انتهت إلى إلغاء القمة، وإلى تقديم رئيس البنك الدولي استقالته بعد المؤتمر مباشرة، ونحن في الوطن العربي نعيش المرحلة التمهيدية لسياتل عربية، وخصوصا إذا ما استمر التهميش المتعمد من قبل الإمبراطوريات الاقتصادية العربية لحاجات وتطلعات المواطن العربي. وخصوصا إذا ما بقت إدارات العلاقات العامة ترزح تحت أيدي خريجي المستويات التعليمية المتدنية، والقدرات الذهنية الضعيفة.
الخطر الحقيقي هو أن تخرج هذه المنظومة من الاقتصاديين وكبار التجار إلى زاوية ضيقة مقابل المجتمع، هنتنغتون برر إخفاق سياتل في مرحلة متقدمة بصراع الحضارات والأديان والايديولوجيات، وهو ما قد ينعكس على واقعنا بالصراع الطبقي الحاد، والذي بالتأكيد سيكون له التأثير السلبي على جميع الأطراف.
الاقتصاد المتنامي يحتاج على الدوام الى مناخ مستقر وصحي وهادئ وفاعل، وهو بالتأكيد قد يزداد ثراء بمظاهر الحرية والديمقراطية، لكن من دون الوصول لعنف الشارع بلغته المبهمة. لذلك قد تزداد حدة الفارق بين الطبقات الاجتماعية، وخصوصا في الدول الصغيرة، لتتشكل صراعا اجتماعيا يحمل تجليات ثنائية حادة ومتضادة.
على المؤسسات الكبرى والقطاعات الاقتصادية الفاعلة، أن تلتفت بصدق وجدية إلى هذه الرؤية، وهي أنها بحاجة إلى أكدمة سريعة وشاملة لأجهزة العلاقات العامة والإعلام والتسويق الاجتماعي، وعليها أن تحاول جادة في الاستثمار الاجتماعي عبر دعم البحوث الخاصة بهذه الأنشطة، ذلك أن الدول العربية وحكوماتها، لا ولن توجد لها النية ذات يوم في المضي قدما نحو تطوير هذه الأجهزة والدراسات التابعة لها، وليس الخيار خيارا مجتمعيا فقط، بل هو خيار اقتصادي بالدرجة الأولى، وعلى غرف التجارة والصناعة في الدول العربية أن تهتم بتدعيم وتطوير وتثقيف وتدريب هذه الفعالية المهمة لدى أعضائها.
لابد من ظهور سريع لمجموعات ضغط مدنية في العالم العربي، ولابد أن تتنبه المؤسسات المدنية لدورها الغائب، وهو محاولة إصلاح البنية القائمة لمساهمات القطاع الخاص في دعم المجتمع المدني بجميع مؤسساته وتركيباته واحتياجاته.
لا يمكن لنا ستر ذلك الوجه القبيح للعولمة، ولاتفاقات التجارة الحرة، عبر صور نمطية بائسة أو مبالغ فيها، لكن علينا تحديدا أن نجعل منها هما اجتماعيا، نخضعه للبحث والتدارس والنقد. وكما يقول أمين معلوف "إن هذا التفتت والتشظي والتذمر هو من جراء الفقر والجوع، وفي آن من جراء التهميش والاستبداد في هذه البلدان. فالشعوب فيها، في النصف الثاني من القرن العشرين سرقت مرتين، الأولى حينما تسلمت السلطة فيها، النخب التي رفعت شعارات التحرر والتنمية القومية، والتي سرعان ما أدارت ظهرها لشعوبها وللشعارات التي رفعتها، ومن ثم شرعت في حملة نهب منظمة للخيرات الوطنية وتهريبها من أجل استثمارها في خارج الوطن، والمرة الثانية حينما أطلق "صندوق النقد الدولي" وصفته الشهيرة لأنظمة العالم الثالث بتطبيق إعادة الهيكلة والعقلنة وسحب الدعم المالي المخصص للسلع الشعبية والأدوية والتعليم". هذا بالتأكيد أدى إلى محصلة اجتماعية غير متوازنة، ففئة الضبط المجتمعي "الفئة المتوسطة" تكاد تنعدم في دولنا العربية، لنتحول إلى عالمين، عالم فوق السحاب، وعالم آخر تحت التراب أو لا أدري تحديدا إلى أين وصلت به آفة الفقر والجوع والمذلة؟ وإن المذلة تورث الحمق، وإن الحمق لا يرقى بالشعوب إلا إلى صدامات الشوارع. ومن هنا لا تكفي النوايا الطيبة لهذه الإمبراطوريات الاقتصادية. "لا تتصدقوا، بل أعطوا الناس حقوقهم"
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 975 - السبت 07 مايو 2005م الموافق 28 ربيع الاول 1426هـ