تبدو طهران أكثر قربا من حسم كثير من خياراتها الداخلية والخارجية في الأشهر القليلة المقبلة. وذلك مع كل يوم نقترب فيه من انتخابات الرئاسة المرتقبة في 17 يونيو/ حزيران المقبل. فعلى الصعيد الداخلي لم يبق هناك الكثير أمام "الإصلاحيين" ليفعلوه في مجال تحقق ما كانوا يرمون إليه من "تنمية سياسية" ظنوا أنهم قادرون على المضي بها بعيدا بحيث تتجاوز شخصية الرئيس المخضرم محمد خاتمي لتصل الى شكل من أشكال القطع بين الايديولوجيا والسياسة بما من شأنه ان يجعل من "جمهورية" بلادهم أقرب ما تكون الى أنموذج حزب العدالة التركي "الإسلامي".
فالرئيس محمد خاتمي وهو ابن المؤسسة الدينية الثورية من جهة والمعتدل و"المهذب" وغير الراغب في القطع مع احد بالمطلق لخصوصياته المتمايزة عن الإصلاحيين بمن فيهم اقرب الناس اليه، ناهيك عن الذين تدثروا بعباءته لغاية في نفس يعقوب نفسه، بدا في ولايته الثانية والأخيرة وكأنه قد "قطع" مع "الإصلاحيين" دون ان يقطع مع الإصلاحات، مفضلا البقاء "طاهرا" في عالم السياسة المليء بالشوائب والشبهات ما فتح الباب عمليا لنمو تيار "مستقبلي" واقعي براغماتي بدأ "يعتمل" داخل جسم المحافظين ليأخذ دفة القيادة التنفيذية "لإصلاحات" مرتقبة ولكن من نوع جديد.
المراقب لمجمل شعارات "الإصلاحيين" الجدد أو "المحافظين الجدد" سرعان ما يكتشف انهم متجهون في حال تسلمهم موقع الرئاسة - كما تشير غالبية التوقعات والاستطلاعات - الى نقل ساحة الإصلاحات الى الميدان الاجتماعي والاقتصادي بدلا من السياسي والثقافي الذي ركز عليه تجمع الثاني من خرداد "الخاتمي" المنحسر نفوذه.
من هنا لا تستغرب ان تسمع من قادة سبق ان كان لهم باع طويل في عالم التنظير الايديولوجي في داخل معسكر المحافظين شعارات من نوع: "لقد ولى زمن التنظير وحان وقت الواقعية في الرؤية والممارسة"، كما جاء على لسان المرشح الأكثر التصاقا بالمعسكر الايديولوجي علي لاريجاني مثلا.
الشيء نفسه ينطبق على الوزير السابق للخارجية علي أكبر ولايتي، وبمديات أوسع وجرأة أكثر في الميدان الاجتماعي بالذات على قائد الشرطة السابق المرشح الشاب محمد باقر قاليباف الذي كان حريصا على الدفاع عن حقوق الشباب الاجتماعية وحرمات الناس الشخصية وافساح المجال للحياة الاجتماعية للناس ان تأخذ طريقها بشكل سلس من دون تدخل الحكومة وايديولوجيا الحكومة مع مراعاة اساسيات القيم الدينية التي لا خلاف عليها بين الحكومة والشعب.
حتى الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الذي ترجح الكثير من الدوائر ان يعلن ترشيحه في اية لحظة أو يدعم اجماع المحافظين ان حصل على مرشح يميل اليه ليكون هو رئيس الظل، بدا حريصا جدا في الآونة الأخيرة على لتأكيد أنه ليس هناك من بد في مخاطبة الناس بخطاب مختلف وبرامج جديدة ولغة جديدة و"العيش مع الناس وفي كنفهم" من دون ان ينسى تأكيد ضرورة العودة الى التنمية الاقتصادية باعتبارها الاساس لأية تنمية شاملة.
واما على الصعيد الخارجي فان مؤشرات كثيرة تنطلق من طهران هذه الأيام تكاد تفيد جميعها بان ثمة تحولا جديا في التعامل مع "عوالم" ذلك الخارج المضطرب والمتحول سريعا من حول إيران خصوصا، وفي المعادلة الدولية عموما.
نعم لن تتحول طهران بشكل دراماتيكي في تعاملها مع الملفات الخارجية المعنية بها، ولكن زمن حسم بعض الخيارات بات وشيكا وفي مقدمتها الملف النووي.
فالملف النووي الذي بات جزءا من الكرامة الوطنية للامة الإيرانية أكثر من كونه موضوع خلاف سياسي بين الحكومة الإيرانية والجهات الغربية يقترب من الحسم لصالح سياسة وضع أوروبا المترددة والمتقلبة والمتلكئة في الزاوية الحرجة وتحت الأمر الواقع الإيراني القاضي بعدم تخلي طهران عن دورة الوقود النووي تحت كل الظروف والتهيؤ لخوض أربع سنوات من الكر والفر مع واشنطن التي تتزعم المواجهة مع طهران لكنها المنقسمة على نفسها أيضا حتى في صفوف المحافظين الجدد في طريقة التعامل مع النظام الإيراني الخارج على الاملاءات الأميركية ولكنه الواقعي والبراغماتي في تعاملاته الاقتصادية والدبلوماسية مع حلفاء واشنطن في أوروبا.
لكن أوروبا لن تكون محرجة تجاه طهران في هذا الجانب فقط، بل ان سياسات طهران الاقتصادية المتجهة شرقا أكثر فأكثر عبر قطبي الشرق المهمين الصين والهند ومع روسيا استمرارا بما فيه الشأن النووي انما يجعل أوروبا أكثر تمسكا بالورقة الإيرانية في معادلة الشد والجذب الجارية بينها وبين واشنطن بشأن أسلوب التعامل مع طهران. ثم ان الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الذي تبدو عودته قوية الى ساحة العمل المباشر أو النفوذ الفعلي سواء عبر الترشيح والفوز بالرئاسة أو عبر "صناعة" الرئيس المقبل سيكون الند الصعب للأوروبيين في المرحلة المقبلة، فهو البراغماتي الى ابعد مدى وصاحب العقل البارد، ولكنه الحازم والقاطع في انتمائه الى المعسكر الثوري الصلب في آن معا لاسيما فيما يتعلق بملفات حزب الله والقضية الفلسطينية والعراق وهو ما يجعل التوافق معه أو المواجهة كالذي يختار بين أمرين أحلاهما مر. صحيح ان الخيارات ستكون أمام إيران صعبة وحرجة أيضا ومليئة بالاشواك والعقد أمام الجمع الجديد ممن يستعد لخلافة خاتمي "المهذب" وصاحب نظرية الحوار مع الآخر وضرورة "تليين" السياسة و"تهذيبها" بالثقافة، ولكن الأرث الذي تجمع لدى أي حاكم إيراني جديد والتجربة الفنية التي سيتركها خاتمي لخلفه من جهة، وعالم "الآخر" المضطرب والمتعثر في أكثر من ساحة سيعطي أوراقا اضافية للمناورة بيد الثنائي التاريخي الذي يستعد لتسلم قيادة مركب الإصلاح من دون الإصلاحيين. ذلك الثنائي التاريخي المؤسس في هذه الجمهورية وهو المرشد علي خامنئي والرئيس السابق هاشمي رفسنجاني وهما اللذان يملكان من القدرة على تبادل الأدوار توافقا واختلافا، ما يجعلهما أكثر فاعلية في وقت الشدة من وقت الرخاء
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 974 - الجمعة 06 مايو 2005م الموافق 27 ربيع الاول 1426هـ