العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ

لا عليكم: مجرد كارثة

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

إذا ما اخذنا في الاعتبار الصيحات القديمة منذ سنوات بشأن تلوث "المعامير" والمناطق المجاورة وصولا إلى الرفاع. .. قرع اول جرس لأعراض "غاز المعامير" في 23 ابريل/ نيسان الماضي. ومنذ ذلك اليوم لم نحظ بأكثر من استعراض مجاني آخر لطريقتنا البحرينية في التعامل مع الكوارث.

لم أفعل أكثر من أن أدخل مفردة البحث "المعامير" أو "غاز المعامير" في ارشيف الصحف على شبكة الانترنت لكي اتابع هذا الاستعراض المجاني الذي يصل الى حد الفضيحة. فالصحف أخذت توالي الكتابة عن حالات جديدة تتعرض لها مجموعة من سكان القرية دفعة واحدة كل يوم تقريبا، وراح مسئولو المجلس البلدي للمنطقة الوسطى يحصون الحالات والارقام: حالات طفح وبثور جلدية، حالات اجهاض لثلاث نساء دفعة واحدة.

ثمة الكثير من التفاصيل: شعور بالغثيان ودوار في الرأس، وبعض الاهالي عندما دخلوا البحر شعروا بقشعريرة وحكة شديدة أدت الى ظهور بقع حمراء على سيقانهم.

بعد يوم من الاعلان عن تلك الاصابات، أي في 24 ابريل/ نيسان، كتبت الصحف أن الاطباء لم يتوصلوا الى تشخيص محدد لست حالات لمواطنين من المعامير يعانون من انتفاخ في القدمين وانتشار حبيبات غريبة على اجسامهم. وكان هؤلاء بحسب الصحف يسبحون في البحر عندما اصيبوا بهذه الاعراض.

وفي 25 من الشهر نفسه، لم يحتمل طبيب بوزارة الصحة وطأة الشكوى فأعلن لصحيفة "الوسط" أن وزارة الصحة تحتفظ بسجلات عن حالات اصابة بالسرطان في القرية منذ العام .1997 عدد الحالات: 15 اصابة في المعامير و50 في النويدرات وخلص الى استنتاج من شأنه اصابتنا بالهلع: "ما يعني أن معدل الاصابة يبلغ نحو عشرة أشخاص في العام الواحد... النسبة تعد كبيرة مقارنة بعدد سكان القرية الذي لا يتجاوز أربعة آلاف شخص" وفق هذا الطبيب. وفي 26 من الشهر، كتبت الصحف أن عدد المصابين ارتفع الى 15 معظمهم من الاطفال.

جاء اول رد فعل من شركة بابكو في 24 من الشهر، إذ نفت أن يكون الغاز المتسبب في كارثة المعامير منبعثا من مصنع التكرير، مؤكدة أنها تعتمد في عملياتها على أجهزة حديثة تمنع زيادة انبعاث الغازات إلى الخارج وأن لديها أجهزة إنذار تعمل على مراقبة حجم الغازات المنبعثة.

وزادت بالقول إن الغاز المسبب لذلك ثاني أكسيد الكبريت أو كبريت الهيدروجين وأن وحدة الكبريت في الشركة تعمل بشكل طبيعي ولم تتعرض إلى أي خلل يسبب انبعاثات إضافية، إذ تعتمد على قياسات محددة.

وفي 26 من الشهر، كتبت الصحف أن الهيئة العامة لحماية البيئة طلبت من شركة بابكو تغيير اجهزة رصد التلوث بعد أن اكتشفت عدم فاعليتها.

وفي اليوم نفسه، قام مسئولون من وزارة الصناعة بزيارة القرية للتحقيق في الكارثة ووعدت بتصحيح الأوضاع مثلما كتبت الصحف. وفي 27 من الشهر كتبت الصحف، أن مدير عام الهيئة العامة للبيئة اسماعيل المدني اعتبر أن اصابة 70 من الاهالي بالسرطان ووفاة 20 خلال سبعة اعوام مسألة عادية ووعد بتوفير جهاز لقياس حجم التلوث.

وفي اليوم نفسه، كتبت الصحف أن وزيرة الصحة ندى حفاظ بعثت رئيس قسم الصحة العامة في وزارة الصحة الى القرية، مضيفة أن المسئول اطلع على الحالات والتقارير الطبية الخاصة بها.

وفي اليوم نفسه، كتبت الصحف أن الحكومة طلبت تأجيل تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في كارثة المعامير عندما طلبت تأجيل التصويت على تشكيل اللجنة لمدة اسبوع.

وفي 28 ابريل نفى رئيس قسم الصحة المهنية بوزارة الصحة جعفر الطريف وجود اي شكوى في مناطق المعامير وسترة وعسكر من اصابات جلدية أو تنفسية أو حالات "حساسية" بسبب الغازات المنبعثة من المصانع في تلك المناطق وفق صحيفة "الايام". وفي اليوم نفسه سمعنا رأيا آخر نقلته الصحيفة عن استاذ الفيزياء بجامعة البحرين وهيب الناصر يرجح فيه كاحتمال أن "الغاز الخانق والغيم الاصفر ناتجان عن الانقلاب الحراري، مؤكدا أن هذه ظروف جوية من صنع الله ولا دخل للدولة أو المصانع فيها".

وكان يتعين الانتظار حتى السبت 30 ابريل لكي تطالعنا الصحف في اليوم التالي أي في عيد العمال 1 مايو/ أيار بأن سمو رئيس الوزراء أمر بالتحقيق في كارثة المعامير.

أوردت هذا السرد لكي اخلص الى هذا السؤال: ما الذي ينقص هذه اليوميات؟ على مدى ايام لم نسمع ولم نلمس من ردود فعل سوى: تقاذف للمسئولية، زيارات ميدانية، تقليل من شأن اعراض مرضية تصيب الاهالي بشكل جماعي، اجهزة قديمة لرصد التلوث وأخرى في الطريق، تهوين من كارثة يتعرض لها مواطنون محاصرون بالمصانع.

ما لم نسمعه: أن تحليلا مختبريا قد تم اجراؤه. وما لم نسمعه ايضا هو الدليل العلمي الذي يسند تلك الاراء التي هونت من الامر اما بالتقليل من شأنه أو برده الى مشيئة الرب وظواهر كونية أخرى. هذه الادلة العلمية لا يمكن أن نتوقعها من مواطنين بسطاء لا يريدون سوى العيش بصحة وعافية، بل إنها مسئولية الحكومة وكل هذه الاجهزة التي لا تعرف سوى أن تنفي وتهون من الكوارث وتحتاج إلى إذن لكي تحقق في مرض أو وباء أو كارثة بيئية.

أجهزة رصد التلوث جيدة، لكنها لن تحل المشكلة. فماذا اذا اكتشفت هذه الاجهزة غدا أن نسبة التلوث وانبعاث الغازات قد زادت عن المعدل؟ لن تحل شيئا طالما بقيت طريقتنا في مواجهة المسئولية على ما هي عليه. إنه استعراض يذكرنا بما جرى في اغسطس/ آب الماضي عندما انقطعت الكهرباء عن البلد بأسره وعشنا حال طوارئ اقرب لحال الحرب ولم نظفر بأي تفسير سوى تقاذف للاتهامات بين وزارة الكهرباء وشركة ألبا قبل أن يبدأ التحقيق.

لا انتشار السرطان الذي اصبح مثل الانفلونزا في بلادنا ولا المرض الجماعي للناس يثير في هذه البيروقراطية أي سؤال ولا أي حافز... أي نوع من الكوارث يمكن أن يحرك هؤلاء؟

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً