على ضفتي الخليج يتقابل العرب والعجم منذ أن كتب التاريخ، ويسعى بعض الأخيرين "العجم" إلى الضفة الغربية من الخليج، لطلب التجارة والعمل في العصر الحديث كما سعى الأولون "العرب" في السابق لالتقاط عيشهم على الضفة الشرقية، فهناك تاريخ ضارب في القدم وطويل ومتواصل للعلاقات بين الضفتين، وبين الشعوب التي قطنت هذا الخليج. وفي الأسابيع الأخيرة برزت مشكلة الأقلية العربية من جديد في الأهواز "خوزستان" إلى درجة أن المرض العضال، وهو الانتحار بسيارات مفخخة وصل إلى تلك الأنحاء، وهي علامة سلبية لما قد يأتي، إن صحت الأخبار الأخيرة، ودلالة على أن المشكلة عميقة الجذور.
بسهولة شديدة يمكن تفسير ما يحدث في الأهواز على أنه "مؤامرة إسرائيلية أميركية" كما ذهبت بعض الكتابات الإيرانية، فالإخوة الإيرانيون اليوم ليسوا بعيدين عن التفكير الكلاسيكي العربي السياسي، بإرجاع كل الشرور إلى الأعداء، إنما الصعوبة في فهم المشكلة ومحاولة حلها، كما يجب في ضوء التطورات العالمية، والتي لم تترك ركنا من أركان المعمورة إلا وأشارت إليه بكشافاتها العالية.
هناك عدد من الأقليات في البحر الإيراني اليوم، منهم آذاريون، وبلوش، وأكراد، وأخيرا عرب. والعرب هناك لهم قصة تاريخية تحكى، فالكثير من المصادر التاريخية الغربية، التي لا توجد لدينا أمثالها وتعود إلى قرون مضت تذكر العرب على طول امتداد الساحل الغربي للخليج. وتؤكد أن كل الجزر القريبة من ذلك الساحل يقطنها عرب وقبائل عربية، بل تذهب بعض المصادر إلى القول بأن العرب كانوا هناك منذ العهد الساساني، قبل الميلاد وحتى قبل الهجرة النبوية، وفي العصر الحديث كتاب كبار مثل نيبور ثم لوريمر ثم كيرزن، وغيرهم من المراجع المعتمدة لكتاب التاريخ المعاصرين يشيرون منذ نهاية القرن السابع عشر الميلادي، إلى منتصف القرن العشرين وجود العرب في الكثير من المدن الصغيرة والقرى قرب الساحل الغربي للخليج على الأرض الإيرانية، وهم باقون حتى اليوم.
أحمد اقتداري، وهو مؤرخ إيراني معاصر يتحدى فكرة المؤرخين الغربيين، بقوله إن العرب في أرض فارس تفرسوا، وأصبحوا مواطنين، وان كل الحديث التاريخي أصبح من التاريخ، ويوعز الخلاف الحاصل إلى التشدد القومي العربي، الذي يغير الأسماء ويستشهد بأن اسم الخليج الفارسي والذي سماه الغربيون بذلك الاسم، غيره العرب إلى الخليج العربي.
الشد والجذب بشأن تلك المقولات التاريخية مازالت عالقة، ولها متعصبون من الجانبين. إلا أن المؤكد ان العرب أو القبائل العربية، نزحت إلى الشاطئ الإيراني تاريخيا لعدد من الأسباب، أهمها البحث عن معاش بعيدا عن بيئتهم الشحيحة، فاستخدموا البحر الذي لم يكن لأهل فارس الكثير من الشغف به، للتجارة بين الضفتين والاستيطان، بل أسسوا، بناء على اتفاق ضمني أو غير ذلك مع العهود الشاهانية المختلفة، مشيخات على طول الساحل، تجلب المكوس "ماليت" إلى الحكام في العواصم الإيرانية، وتقوم بصد أية غزوات من الخارج على الساحل الغربي، كان ذلك عملها، بل شهدنا مشيخات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عربية مستقلة نسبيا، من بندر لنجة إلى بندر ريق إلى المحمرة، وكان حكامها إما حكام أو نواب حكام للأقاليم معترف بهم.
طبعا، حصل الكثير من الشد والجذب إبان التاريخ الطويل، ويعلمنا التاريخ أن هناك عاملين اثنين أثرا في قوة الشد والجذب، فكلما قويت الحكومة المركزية، سواء في أصفهان أو طهران، قل نفوذ مشايخ العرب على الساحل الغربي الإيراني، وكلما قويت فكرة القومية، سواء الإيرانية أو العربية كلما حصل الاضطهاد.
منذ السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر شهد العرب المستوطنون قرب السواحل الإيرانية نزوحا إلى الجانب العربي، سبقه قبل ذلك عودة كبيرة للقواسم من جنوب الخليج، ثم تبعه مجموعات كبيرة من العرب في الداخل أو على الساحل، الذين سموا "هولة" بسبب الإصلاحات التي فرضها شاه إيران السابق رضا شاه، من أجل تقوية السلطة المركزية، منها تأميم التجارة "القوانين المسماة انحسار التجارة" وقوانين "كشف الحجاب" كل ذلك في نهاية ثلاثينات القرن الماضي ما دفع مجموعات عربية كبيرة، في الغالب سنية، لترك قراهم فرارا مما حسبوه تدخلا في حياتهم الاجتماعية، وصادفت هذه الهجرة الكبيرة إلى مدن سواحل الخليج الغربي "العربي" انتعاشا اقتصاديا سببه اكتشاف النفط وتسويقه، ما أتاح لهذه الفئة الكبيرة والسنية الانخراط في المجتمعات الصغيرة والقابلة بسهولة ويسر لهضمهم، ومكنتهم لاحقا لعب أدوار كبيرة في بناء الدولة الحديثة، وهي تتحول من تحالف قبلي تجاري محدود إلى دولة حديثة واسعة الأركان.
لم يهاجر كل العرب من السواحل الإيرانية بعد انقضاء مشيخاتهم وتقوية الدولة المركزية الإيرانية، بل بقي عدد كبير منهم، وهم يمثلون اليوم نحو 3 في المئة من سكان إيران الحديثة، وهو رقم ليس بالقليل، إلا أنهم انقسموا إلى قسمين، الأول وهو القريب مما يعرف بالخليج الأسفل، نشطوا في التجارة البينية، وخصوصا السفن الصغيرة لنقل البضائع، كما كانت الفرص متاحة أمامهم للهجرة والانسجام في الدول الخليجية الحديثة العطشى للقوة العاملة، سهل كل ذلك من تخفيف الاحتقان الاقتصادي بينهم والانصراف عن السياسة الداخلية الإيرانية، ما داموا في قراهم بعيدين عن التأثر المباشر للسلطة المركزية.
أما الفريق الثاني فهم عرب شمال شرق الخليج في الأهواز وما جاورها، فهناك بقيت الكتلة السكانية كبيرة، ولم يكن من السهل استقبال أعداد كبيرة من قبائل بني كعب والنويصير وبني حمد وغيرهم من السكان لعدد كبير من الأسباب، منها وضعهم الاقتصادي المريح نسبيا، بالمقارنة بأهل القرى في وسط وجنوب فارس "الإقليم المطل على الخليج" ومنها أنهم كانوا غالبية في مناطقهم.
لقد أصبح العرب اليوم، كغيرهم من الأقليات التي تعيش في إيران، إيرانيين حكما وقانونا، وكانت الإشارة المهمة أنهم لم يرضخوا أو يساعدوا الحملة العراقية على بلادهم في بدء الحرب العراقية الإيرانية، بل على العكس وقفوا ضدها، مخالفة للفكرة الخطأ الذي كان أهل البعث يعتقدون بها نظريا، من أن هؤلاء سيكون لهم الغزو فاتحة فرج، كما تشدق سفير العراق في الكويت في اجتماع مع نخبة من النشطين أوائل الثمانينات، عندما سئل السؤال المحرج: هل تظن أن العالم سيتجاهل استيلاءكم على منطقة خوزستان، وقرب منها منابع النفط؟ فانتفخت أوداجه، وقال قول الواثق: "إن الغربيين لا يهمهم لون عيون من يبيعهم النفط!".
مازال العرب وغيرهم من الأقليات العرقية والمذهبية يعيشون في إيران، وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي دعت جامعة كولومبيا في نيويورك إلى ندوة كبيرة عقدت في قبرص شهدها كاتب هذه السطور، وقدمت فيها دارسات معمقة بشأن وضع الأقليات وخصوصا العربية في إيران، منها دراسة شدت انتباهي قدمتها الباحثة شهناز رضائي نجم أبادي، وهي باحثة في جامعة جوث في فرانكفورت بشأن سكان منطقة "قبند" العرب، وكانت الباحثة تبدو إيرانية في مظهرها ومخبرها، فسألتها مازحا: كيف تفاهمت مع العرب وبأية لغة مادمت تقولين إنهم مغلقون على أنفسهم؟ فقالت بالوتيرة نفسها: أنا واحدة منهم!
حركة الأهوازيين العرب الذين أيدوا السيدخاتمي ضد السيدشمخاني ابن جلدتهم في الانتخابات الأخيرة، واقعيون هجروا الأفكار القديمة في انسلاخ بعيد عن المركزية، هم فقط، كمثل غيرهم من الشعوب والأقليات، يشعرون أن العدالة والتنمية وحقوق الإنسان ليس لها لون ووجه أو لغة معينة. إنها متطلبات إنسانية، يسألها الإيرانيون كمواطنين، وعلى العقلاء في إيران وهم كثر والحمد لله، أن يتفكروا في الأمر بعيدا عن تعصب أو نظرية مؤامرة.
* كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 963 - الإثنين 25 أبريل 2005م الموافق 16 ربيع الاول 1426هـ