بعد أكثر من شهر ونصف الشهر من تقطيع الوقت بالمشاورات والاعتذارات والعودة عنها، ثم العودة إليها وأخيرا استبدال عمر كرامي بنجيب ميقاتي، تمكن هذا الأخير - بالأحرى جرى تمكينه - من تشكيل حكومة لبنانية جديدة. ولادة الوزارة بحد ذاتها، كانت محطة استراحة في مسار الأزمة اللبنانية الطاحنة. محطة، كان البلد بأشد الحاجة إليها. أنعشت الأمل بتلمس طريق المخرج، بعدما كاد غبار الغليان الشعبي والتوتر السياسي يحجب الرؤية إلى حد الانعدام، على إثر هزة 14 فبراير/ شباط وتداعياتها.
الآن تعكف الحكومة على إعداد بيانها الوزاري، لطلب ثقة المجلس النيابي على أساسه. باستثناء وقوع طارئ غير محسوب؛ فإن نيلها الثقة مضمون. بعد الثقة، في الأيام القليلة المقبلة، تنتهي الاستراحة وينتقل لبنان من هم الحكومة إلى هموم الحكم. هناك الامتحان الصعب. بل فوق الاعتيادي. صحيح الأجندة قصيرة ومحددة، لكن بنودها من العيار الثقيل والمدة ضاغطة. بالكاد شهرين. خلالها يتبين ما إذا كان من الميسور العبور بلبنان إلى الضفة الأخرى، أم لا.
حكومة ميقاتي أوحت بأن باب الفرج ربما انفتح، ولو مواربة. لكن الظروف التي رافقت مجيئها تفرض التحفظ؛ إذا لم يكن الارتياب. ذلك أن هناك أسئلة كثيرة بشأنها محاطة بالغموض والالتباس. أولها: كيف جرت ولادتها بهذه السرعة؟ وما الذي سهل الأمور إلى هذا الحد؟ ما الذي كسح كل العقبات من طريقها؟ الرئيس المكلف السابق عمر كرامي قضى 45 يوما بالمحاولات لكن من دون جدوى. كانت إلى جانبه أكثرية عددية في مجلس النواب، لكنه لم يقو. فاعتذر، بعد أن جرى تفشيله. فجأة ظهر نجم ميقاتي. والمفاجئ أكثر أن المعارضة التفت حوله ومنحته دعمها. طلعت، يوم الاستشارات، لكنها إلى القصر الجمهوري؛ بعد أن كانت مقاطعة الرئيس لحود؛ لترشيح ميقاتي. علما بأن هذا الأخير على علاقة جيدة مع سورية؛ خصم المعارضة. ثم هذا المقرب من سورية لم يحظ بتأييد الموالين لها. كان لهم مرشحهم - عبدالرحيم مراد - المحسوب بقوة على خندق دمشق. وهذه أول مرة، منذ ثلاثة عقود تقريبا، لا يكون فيها الفوز، بأي منصب سياسي لبناني، لمن هو في هذا الخندق. وزيادة في الحيرة أن رئيس الحكومة الذي احتضنته المعارضة، جاء بتشكيلة وزارية راجحة فيها، بنسبة الثلثين على الأقل، كفة خصمها الرئيس لحود! وعلى رغم وعود ميقاتي بأن تكون جديدة ومحايدة بكل أعضائها بقي فيها وزير من التركيبة القديمة - وزير الخارجية - إضافة إلى عودة صهر الرئيس، الذي أخذ حقبقة وزارة الدفاع. ومع ذلك لم تقم قيامة المعارضة!
هل هي صفقة أم انقلاب أم لغز ملغوم؟
ليس سرا أن تركيب الحكومة، مع تكويع المعارضة، طبخة خارجية. تحديدا فرنسية - سعودية، حظيت بمباركة أميركية، وبعدم ممانعة سورية. تقاطعت اعتبارات ومصالح كل هذه الأطراف عند ولادة هذه الحكومة. لكن هذا التوافق أو بالأحرى التلاقي عند هذه النقطة لا يضمن عدم التصادم، لأن الأجندات مختلفة؛ إذا لم تكن متضاربة. لكل واحد حساباته ومقاربته لحكومة ميقاتي ودورها. منهم من أراد بها شراء الوقت وترحيل الاستحقاقات. ومنهم من يرى فيها المدخل لاستعادة التوازن إلى الساحة اللبنانية ولملمتها بعد الانسحاب السوري لوضعها على المسار السوي. وآخر يريد منها النهوض بمهمات تؤسس لتوازنات جديدة يجرى توظيفها كجسر عبور لتحقيق خطط ومشروعات خارج الحدود اللبنانية.
ما لا خلاف عليه أن أمام هذه الحكومة مهمتين رئيسيتين: البت في أمر ووضع مسئولي الأجهزة الأمنية، وإجراء الانتخابات النيابية. المهمة الثالثة، الاستعداد للتعاون مع لجنة التحقيق الدولية الخاصة بجريمة اغتيال رفيق الحريري. ثمة احتمالان، في ضوء ذلك: إما أن تكون طبخة الحكومة قد جرت بصورة مفخخة. على الأقل من جانب بعض المعنيين بها. وأما أن يكون قد جرى إنضاجها على نار صفقة، تندرج تحت عنوان التصفيات لأوضاع وصراعات، داخل الساحة اللبنانية وفي المنطقة؛ كثمن للجم الهجمة الأميركية ومنعها من الذهاب إلى آخر الشوط، الاحتمال الأول غير مستبعد.
رئيس الحكومة الجديد وعد بالعمل على إزاحة رؤساء الأجهزة الأمنية. لكنه استدرك قائلا: إن ذلك منوط في آخر الأمر، بقرار من مجلس الوزراء. في هكذا تركيبة حكومية - وفي غياب وجود صفقة - مثل هذا القرار مستبعد. التوازن في المجلس ضده. وعندئذ بإمكان الرئيس ميقاتي أن يتذرع بالأكثرية داخل الحكومة لتبرئة ساحته. كذلك الأمر بالنسبة إلى الانتخابات. فأمام البرلمان قانون جديد للانتخابات، غير منجز. الأكثرية فيه لصالح الموالاة. وبإمكانها جرجرة المناقشة بالقانون لغاية أن يصبح تأجيل الانتخابات عملية تحصيل حاصل؛ بحكم ضيق الوقت؛ إذ لم يبق سوى أقل من شهر للاستحقاق الانتخابي. ومع التأجيل، إذا حصل، يطير الوعد بإجراء الانتخابات في موعدها. الأمر الذي قد يفتح الوضع على أزمة حكم. أو ربما على فراغ دستوري مديد تضيع فيه الطاسة.
الاحتمال الثاني تعززه وربما ترجحه، مؤشرات وتطورات كثيرة. فسورية في وضع تراجعي. اضطرت تحت ضغط 1559 إلى الانسحاب من لبنان. وهي تدرك مدى الاستهداف الأميركي لها، وخصوصا أن خطاب الإدارة بلغ حدود الإنذار، في الآونة الأخيرة. كما تعرف أن لجنة التحقيق الدولية تحمل بيدها سيفا، تتحين إدارة بوش الفرصة المناسبة لاستخدامه ضدها. بل تدرك أن مدى تحييده عنها مرهون بمدى استجابتها لتقديم التنازلات وبعض هذه الأخيرة استراتيجي: مثل علاقة دمشق مع إيران ومع حزب الله. وواشنطن تجاهر بمثل هذا الابتزاز.
طبخة الحكومة اللبنانية وتسهيل سورية لها - أو على الأقل عدم تأليب الموالاة اللبنانية المؤيدة لها، ضدها - أتى في هذا الإطار. بذلك توحي دمشق بأنها منفتحة على البحث بالمطلوب منها. لكن إلى أي حدود؛ فذلك يتوقف على كيفية تطور الأوضاع، على الساحة اللبنانية. وهنا تعقيدات إدارة المعركة المطلوب من حكومة ميقاتي مواجهتها. معركة الإخراج، سواء كانت الطريق ملغومة أم مفتوحة أمام صفقة. ومثل هذه الوضعية ليست جديدة. عاشتها حكومات لبنانية سابقة، نيابة عن القوى والأطراف الخارجية التي رسمت الأدوار. ودوما كان المشهد نفسه يتكرر. فطالما أن القاعدة في الأزمات هي استعانة الأطراف اللبنانية بالخارج، كيلا يتم شطبها من المعادلة؛ طالما بقيت أسيرة لهذه اللعبة. ومثل هذه الاستعانة محكومة بالتناسل طالما بقيت التركيبة اللبنانية قائمة على المحاصصة الطائفية. هكذا علة لابد أن تفرز هكذا مأزق.
* كاتب لبناني
العدد 960 - الجمعة 22 أبريل 2005م الموافق 13 ربيع الاول 1426هـ