تناول صاحب العظمة الملك المفدى أهم قضايا العمل الاقتصادي في كتابه «الضوء الأول» الصادر في العام 1986 وتضمن تصورا عمليا لجوانب متعددة من برنامج العمل الاقتصادي الذي يجب أن يتضمنه برنامج العمل الوطني في المرحلة المقبلة.
ومن خلال القراءة المتأنية لما جاء في هذا الكتاب عن عناصر التهديد الاقتصادي التي تواجهها دول مجلس التعاون والاستراتيجية الاقتصادية التي اقترحها لمواجهة الصور المختلفة لهذا التهديد وتحقيق التنمية الشاملة نستطيع القول إن صاحب العظمة الملك المفدى وضع رؤيته لمستقبل البحرين الاقتصادي بل ومستقبل دول مجلس التعاون الخليجي وقدم في إطار هذه الرؤية برنامجا واضحا ومحددا يتضمن الأهداف الرئيسية التي يجب السعي لتحقيقها والمهمات اللازمة لتحقيق كل هدف.
المشكلات الاقتصادية
تحدث صاحب العظمة في «الضوء الأول» عن بعض المشكلات الاقتصادية التي تواجهنا ومن أهمها: غياب مفهوم التخطيط الاقتصادي وبرامجه، وعدم وجود خطط تنموية تلتزم بها جميع القطاعات في الدولة ما أدى إلى تذبذب معدلات النمو الاقتصادي وتبديد كثير من الموارد المالية والخضوع الكامل لتقلبات السوق الدولية، وبالإضافة إلى هذه المشكلة أشار عظمته إلى التأثيرات السلبية الناتجة عن الافتقار إلى سياسات تخطيطية صناعية واضحة. ومن هذه السلبيات ارتفاع كلفة إنشاء وتشغيل المصانع، والافتقار إلى المقومات الأساسية لعملية التصنيع مثل عناصر الإنتاج والأسواق والتقاليد الصناعية، وعدم الاستعداد لتقبل نتائج الحياة الصناعية، واعتماد التصنيع في دول مجلس التعاون على صناعة البتروكيماويات بشكل أساسي ما يؤدي إلى تأثر جميع القطاعات الاقتصادية في حال ركود هذه الصناعة فضلا عن الوقوع تحت سيطرة التبعية الخارجية وتزايد مخاطر هذه التبعية بضعف حلقات الترابط الرأسي والأفقي في عملية التصنيع على المستوى الخليجي.
وبالإضافة إلى المشكلات السابقة أشار إلى مشكلة استمرار الاعتماد على مورد أساسي هو النفط، ونتائجها المتمثلة في احتمالات التعرض للركود الشامل في حال توقف هذا المورد أو انخفاض أسعاره، كما تناول بالتحليل مشكلة تذبذب دور قطاع الخدمات في تنويع مصادر الدخل نظرا إلى ارتباط مصير هذا القطاع بالأوضاع السياسية الداخلية والتهديدات الخارجية ما قد يؤدي في حال وقوع أية اضطرابات داخلية أو خارجية إلى هجرة هذا القطاع للخارج وفقدان دوره في سياسة تنويع مصادر الدخل.
وفي إطار مشكلة تذبذب السياسات المالية التي ترجع إلى تحديد معدل الإنفاق على أساس ما هو متوقع من دخل وليس بما هو ضروري من مصروفات، أشار عظمته إلى الإنفاق التوسعي غير المركز، وتزايد حالات الإسراف والتبذير، وظهور الاختناقات الاقتصادية، وتشجيع المضاربة والاستثمار غير الصحي، وتزايد الاعتماد على العمالة الأجنبية بالإضافة إلى عدم توافر احتياطي للأجيال القادمة يمكنهم من ضمان استمرار حياتهم الاقتصادية بالشكل اللائق مع تناقص النفط كمورد اقتصادي أساسي.
وأشار صاحب العظمة كذلك إلى غياب السياسات الاستثمارية الواضحة الناتجة عن عدم تخصيص نسبة معينة من الدخل القومي للاستثمار، ثم تحديد حجم المصروفات بعد هذه النسبة، كما أشار عظمته إلى أن استثمارات بعض دول مجلس التعاون قد تتعرض لخطر التهديد السياسي بالتجميد أو المصادرة أو غيرها من الوسائل في حال نشوب توترات دولية وذلك بسبب عدم انتشار هذه الاستثمارات وتنوعها. كما أوضح بعد ذلك الجوانب السلبية المؤثرة في مسيرة التنسيق الاقتصادي على المستوى الخليجي.
استراتيجية العمل الاقتصادي
ومن الإيجابيات الواضحة في رؤية عظمة الملك للواقع الاقتصادي أنه اقترح حلولا عملية لمواجهة هذه المشكلات وهو ما يمثل المعالم الأساسية لبرنامج العمل الوطني الاقتصادي في المرحلة المقبلة، فقد طالب في مجال تنويع مصادر الدخل بالعمل على زيادة الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية بهدف توسيع قاعدة الإنتاج، بالإضافة إلى التقليل من توجيه الاستثمارات لقطاع التجارة ذلك أنه على رغم أهميته فإنه لا يلعب دورا كبيرا في إحداث تغييرات اقتصادية هيكلية مهمة، فضلا عن ضرورة العمل على تحقيق الاستقرار المنشود لقطاع الخدمات تمكينا له من أداء دوره في سياسة تنويع الدخل.
واقترح في مجال دعم القطاع الصناعي وتحقيق فاعليته وضع خريطة صناعية لدول مجلس التعاون تحدد وزن وحكم القطاع الصناعي بفروعه المختلفة، ووزن وحجم الصناعات الرائدة التي يتوقع أن تقود عملية التنمية الصناعية في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية المتوقعة، على أن تتضمن هذه الخريطة طبيعة ونوع الاستثمارات الصناعية التي يتوافر فيها أكبر قدر من التشابك والتداخل الصناعي بحيث يدعم كل منها الآخر سواء فيما يتعلق بتوفير أحد أو بعض المدخلات اللازمة له أو استخدام كل أو بعض منتجاته على المستوى القُطري والمستوى الخليجي ككل، وتحديد أهداف رقمية لنصيب الصناعات الوطنية من الناتج المحلي مع التركيز على رفع نصيب الصناعة التحويلية بحيث يصل في مرحلة زمنية محددة إلى 25 في المئة من الناتج المحلي، وتحديد حجم التمويل المطلوب توفيره لتحقيق التنمية الصناعية على المستوى الخليجي وعلى مستوى كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، وتشجيع الاستثمار الخاص في قطاع الصناعة بتقرير التسهيلات المباشرة مثل تخصيص المواقع الصناعية بأسعار مناسبة أو غير ذلك من التسهيلات غير المباشرة كتشجيع قيام الأجهزة المتخصصة في دراسة وإيجاد فرص الاستثمار الصناعي وتمويلها بكلفة وشروط ميسرة.
وبالإضافة إلى ذلك أشار عظمته إلى أهمية إعداد مسح جيولوجي دقيق بهدف الكشف عن إمكانات الوجود الاقتصادي للمواد المعدنية المختلفة، واتخاذ الخطوات اللازمة لتحديد سياسة نقل وتطويع وتطوير التكنولوجيا، وتوحيد التشريعات والأنظمة الصناعية.
وطالب عظمة الملك بأن ندخر من إيراداتنا الحالية ما يضمن لأجيالنا القادمة حدا أدنى من الحياة الاقتصادية اللائقة التي تمنحهم الثقة والاطمئنان في عملية بناء مستقبلهم الخاص، مُركّزا في ذلك على أهمية الحد من الاستهلاك التبذيري الذي يعطي الانطباع بأننا لا نعيش فقط ضمن حدود إمكاناتنا الحالية بل إننا كذلك نعيش على حساب الأجيال القادمة. كما طالب بتبني استراتيجية تواجه التحديات الاقتصادية التي تتعرض لها دول مجلس التعاون وذلك لتحقيق الأمن الغذائي والأمن النفطي في حال تعرض المنطقة لأية اضطرابات داخلية أو خارجية باعتبار أن اقتصاديات دول مجلس التعاون منكشفة وتعتمد اعتمادا شبه كلي فيما تحتاج إليه من غذاء أو ما تصدّره من منتجات على الخارج.
إعادة توزيع الدخل والثروة
وقال عظمة الملك إن من أهم السياسات الاقتصادية المطلوبة ما يرتبط بضرورة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإعادة توزيع الدخل والثروة على المواطنين بشكل يقلل من حدة التفاوت الحالي، ويرجع ذلك كما قال إلى أن هذا التفاوت يعتبر أحد أهم نقاط الضعف التي تعتري الكيان الاقتصادي والاجتماعي، وقدم عظمته عدة اقتراحات لمواجهة هذه المشكلة من بينها التدخل الحكومي المباشر لرفع المستوى الاقتصادي للمواطنين من الفئات الاجتماعية التي لم تستفد بشكل ملموس من الثروة والرخاء وذلك باتباع إحدى السياسات المالية المحققة لهذا الهدف، وكذلك الاستمرار في سياسة الإسكان الحكومي ودعم المواد الأساسية، وبالإضافة إلى ذلك أشار إلى ضرورة توسيع قاعدة الملكية في بعض المؤسسات الاقتصادية الناجحة لتشمل الفئات الاجتماعية الفقيرة، وتوطيد وترسيخ العلاقة بين المردود والعمل تجنبنا لصور الغبن الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع.
الشفافية والنزاهة
وإذا كان ميثاق العمل الوطني أشار إلى أنه يجب أن يصحب الانفتاح الاقتصادي تغيير في تفكير الإدارة العامة نحو تبسيط الإجراءات والشفافية والقضاء على التداخل في المسئوليات وتحسين مستوى الخدمات وتحديث التشريعات الاقتصادية وأن تحكم كل ذلك معايير النزاهة وتكافؤ الفرص فقد اهتم عظمة الملك بقضايا الشفافية والنزاهة فأوضح في «الضوء الأول» أهمية تثبيت مبدأ النزاهة في العمل للصالح العام كمنهج أساسي للخدمة العامة.
تلك كانت الملامح العامة لبرنامج العمل الاقتصادي في المرحلة المقبلة كما أوضحها عظمة الملك في «الضوء الأول» ولا شك في أن هناك إضافات جديدة يمكن أن يتضمنها برنامج العمل الاقتصادي في المرحلة المقبلة ويقع على عاتق المجلس الوطني والوزارات المعنية وفي مقدمتها وزارة الصناعة مسئولية إثراء هذه البرامج بأفكارهم ومقترحاتهم المختلفة.
صناعة المستقبل
ونود أن نشير في هذا المجال إلى أن صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تعتبر صناعة المستقبل، وإذا أرادت البحرين مسايرة هذه الثورة الصناعية فعليها أن تحتل مركزا متقدما في هذه الصناعة لزيادة الدخل القومي وتوفير مزيد من فرص العمل وجني ثمار تطبيق العلم وتطويعه في خدمة المجتمع.
وتتمثل أهمية هذه الصناعة في أن قطاع المعلوماتية العالمية مثّل في العام 2000 ما يزيد على نسبة (10 في المئة) من إجمالي الدخل العالمي وهي نسبة تعلو على ما هي عليه في قطاع السيارات، وبالإضافة إلى ذلك يعلو معدل نمو أنشطة المعلومات العالمية عما هو عليه في كل القطاعات الأخرى حاضرا ومستقبلا، هذا فضلا عن أن المعلوماتية تمس مختلف الأنشطة الاقتصادية أو تكاد إذ أن حوالي ثلاثة أخماس العاملين بأجر على مستوى العالم يستخدمون الآن تكنولوجيا ترتبط بالمعلوماتية بشكل أو بآخر، كما تمثل صناعة البرمجيات أعلى قيمة مضافة بين جميع الصناعات إذ أنها تعتمد على الفكر والعقول البشرية في الدرجة الأولى ثم تأتي بعد ذلك الاحتياجات المالية والآلات كعامل مساعد، ومن ناحية أخرى فإن عائدات أميركا من صناعة البرمجيات تبلغ أضعاف عائدات النفط في الدول العربية، وتعد التكنولوجيا الحديثة في الاتصال والمعلومات مسئولة في الولايات المتحدة عن أكثر من ربع معدل النمو الاقتصادي، في العام 2000 كما حققت هذه الصناعة أكثر من (8 في المئة) من مجمل الناتج الإجمالي الأميركي وهو ضعف ما تحقق في الأعوام العشرين الماضية. وقد وصل الاستثمار في أميركا في هذه التكنولوجيات إلى معدل حوالي (50 في المئة) بينما كان في الستينات (3 في المئة) فقط.
ويذكر أن صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تشمل صناعة البرمجيات وصناعة الحاسبات الإلكترونية في أنواعها وصناعة وسائل الاتصالات الحديثة وصناعة مكونات الشبكات الإلكترونية ونظم المعلومات. ومن الضروري أن نشجع الاستثمارات العالمية على إقامة هذه الصناعات في البحرين بالمشاركة مع القطاع الخاص كجزء أساسي من برنامج العمل الاقتصادي في المرحلة المقبلة.
إن الآمال معقودة الآن على وزارة الصناعة وغيرها من الوزارات المعنية لتحقيق البرنامج الذي وضعه الملك المفدى في العام 1986 وإضافة الاتجاهات التي فرضتها المتغيرات العالمية والإقليمية والمحلية منذ ذلك الوقت ويقع على عاتق المجلس الوطني بغرفتيه مسئولية كبيرة في الاستفادة من تشخيص الواقع الاقتصادي الذي أشار إليه عظمة الملك في «الضوء الأول» ومشكلاته واحتياجاته ووضع التصور الذي يمكن من خلاله تحقيق الانطلاقة الاقتصادية للمجتمع البحريني
إقرأ أيضا لـ "عزت عبدالنبي"العدد 96 - الثلثاء 10 ديسمبر 2002م الموافق 05 شوال 1423هـ