العدد 958 - الأربعاء 20 أبريل 2005م الموافق 11 ربيع الاول 1426هـ

الذكرى الستون لاستسلام ألمانيا النازية

سمير عواد comments [at] alwasatnews.com

إذا حصلت على فرصة ولم تستغلها، فإنك لم تستحقها. استغل الألمان الفرصة التاريخية التي سنحت لهم بعد هزيمة بلدهم في الحرب العالمية الثانية كما جاءت الحرب الباردة ضربة حظ بالنسبة إليهم. منذ أسابيع تشير وسائل الإعلام الألمانية إلى الذكرى الـ 60 لاستسلام ألمانيا النازية التي تحل يوم الثامن من مايو/ أيار المقبل. كانت البداية في النهاية كما يقول البروفسور جريجور شولجن أستاذ التاريخ الحديث في جامعة إيرلانجن الذي يعتبر من أبرز المؤرخين الألمان. لم تحظ دولة أخرى في أوروبا بما حظيت به ألمانيا نتيجة نهاية الحقبة النازية. إذ حين وقع الجنرالات الألمان بطيبة خاطر على وثيقة الاستسلام وعقب تسلم الحلفاء المنتصرون "الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا وروسيا" السلطة العليا على ألمانيا في العام ،1945 لم ينته العهد النازي الذي ألحق ويلات بأوروبا وأنحاء أخرى في العالم، بل انتهى معه حلم الدولة القومية التي أسسها أوتو فون بسمارك العام 1817 وأصبحت بعد ليلة الثامن من مايو 1945 تاريخا.

كان هتلر الذي ينحدر من النمسا القائد الأخير الذي كان يسعى إلى إقامة الدولة القومية الألمانية وإبراز العرق الألماني الأشقر. وشاء القدر أن يقع هتلر ضحية مغامراته العسكرية التي أودت بحياة الملايين في أوروبا سقط غالبيتهم في روسيا. وارتبط اسم هتلر بهزيمة ألمانيا وأيضا بجرائم اضطهاد اليهود في أوروبا. حتى اليوم لم يهتم المؤرخون بواحدة من نتائج اضطهاد اليهود في أوروبا التي ساعدت بصورة كبيرة في تهويد فلسطين والاستيلاء عليها لاحقا وتشريد شعبها.

في مطلق الأحوال لم يكن ليخطر على بال أحد في مايو 1945 أنه بعد 4 سنوات فقط ستتأسس جمهورية ديمقراطية على أرض ألمانيا ترمز إلى حقبة جديدة على رغم أنها كانت جزئية. فحين تأسست ألمانيا الغربية في العام 1949 كتب عليها أن تظل محسوبة على المعسكر الغربي بينما كتب الانقسام على أن تنمو ألمانيا الديمقراطية تحت مظلة المعسكر الاشتراكي لكن عمرها دام 40 سنة. ففي العام 1990 انهار النظام الاشتراكي في برلين الشرقية وسقط جدار برلين نتيجة الثورة السلمية التي قامت بها جماهير ألمانيا الشرقية منتشية بالتحولات التي عصفت بأوروبا الشرقية. وحين حلت الذكرى العاشرة لاستسلام ألمانيا النازية في العام 1955 أي بعد عشرة أيام على الاستسلام غير المشروط، كانت ألمانيا قد غدت دولة تتمتع بسيادة شبه كاملة وعضوا في أبرز حلفين غربيين: الناتو والمجموعة الأوروبية المشتركة التي تعرف اليوم باسم الاتحاد الأوروبي.

هذا المصير نتيجة الظروف التي مرت بها السياسات العالمية كما يؤكد البروفسور شولجن في مقال نشرته مجلة "دويتشلاند" التي تصدر عن دار سوسيتيتس بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية. ويذهب هذا المؤرخ الألماني في طرحه إلى أن الألمان الذين بغضوا الدكتاتور السوفياتي جوزف ستالين يدينون بالشكر له ولأتباعه في أوروبا وآسيا. إذ لولا الحرب الباردة التي قامت بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي بعد وقت قصير على نهاية الحرب العالمية الثانية، لما توصلت القوى الغربية في مايو 1949 إلى قرار بتأسيس دولة ألمانية في المناطق التي كانت تخضع لسيطرتها. نتيجة حسابات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي قررت مواجهة الاتحاد السوفياتي حصل الألمان على ما لم يكن بوسعهم تحقيقه بقوتهم الذاتية. فقد حصلوا على دولة ديمقراطية بعد رحيل هتلر غير أن الألمان التزموا في دستورهم بما يشير إلى أنهم استخلصوا الدروس الصعبة من تجارب العهد السابق كما تعهدوا بحماية "إسرائيل" التي تأسست قبل عام من ظهور ألمانيا الغربية.

كان يمكن للألمانيتين أن تقفا وجها لوجه لو قامت حرب عالمية ثالثة. كان الغرب يهاب التحالف الذي نشأ بين ستالين والصين تحت قيادة زعيمها ماو تسي تونغ. إذ ساد اعتقاد في الغرب أن ستالين وحليفه الصيني يقفان وراء الهجوم الذي شنته كوريا الشمالية في صيف العام 1950 ضد النصف الجنوبي من كوريا ما أدى إلى اندلاع حرب استمرت ثلاث سنوات. كان لاندلاع الحرب الكورية أهمية بالغة بالنسبة إلى الاستقرار في ألمانيا الغربية. إذ أضافت هذه الحرب العامل العسكري. إضافة لوجود قوات الحلفاء الغربيين الثلاثة في أراضي ألمانيا الغربية وجد أول مستشار ألماني بعد الحرب كونراد أدناور أن فرصة إعادة تأهيل بلاده تكمن في الانصهار في حلف شمال الأطلسي وفي المجموعة الأوروبية.

يشير البروفسور شولجن إلى أن الحرب الباردة كانت فعلا نعمة من السماء حلت على الألمان الغربيين. لم يكن أمامهم خيار آخر غير التعايش مع ظروف الحرب الباردة والمراهنة على تخفيف حدة التوتر بعد أن سلموا بتقسيم بلدهم. على رغم تجاوز تقسيم ألمانيا فقد ورد في دستور ألمانيا الغربية واعتبر مسألة غير ممكنة بعد تشييد جدار برلين في العام ،1961 إلا أن رياح التغيير التي عصفت بأوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات مهدت لما لم يخطر على بال الألمان. كان المستشار الألماني الرابع فيلي برانت الذي تولى المهمة الصعبة بإقناع مواطنيه بقبول واقع التقسيم. وحثهم على التخلي عن المطالبة بأراض تقع اليوم في بولندا وروسيا والتشيك. كان هذا مهما كي تكسب ألمانيا ثقة دول الجوار التي عانت الأمرين من حقبة هتلر. وقع برانت على اتفاقات وظل يطلب الصفح عن جرائم النازية مؤكدا أن الألمان لن ينسوا النقاط السوداء في تاريخهم. وصفه البعض في ألمانيا وخصوصا مؤيدو معسكر الاتحاد المسيحي بالخائن لأنه تخلى نهائيا عن أراضي ألمانية. في ذلك الوقت لم يكن أحد في واشنطن ولا في أوروبا يرغب في تغير وضع الألمانيتين.

لكن لم يحسب أحد أي حساب لرياح التغيير التي عصفت بأوروبا الشرقية وظلت تمتد إلى دول كانت تابعة للمعسكر الاشتراكي وصولا إلى ألمانيا الشرقية. أمام مطالب الجماهير اضطر الحلفاء المنتصرون إلى وضع تسوية جديدة للألمانيتين هذه المرة وجد المنتصرون أن مصالحهم تقضي بتجاوز انقسام ألمانيا وليس في بقائه. نتيجة للتسوية التاريخية التي تمت في العام 1990 حصل الألمان على حريتهم الكاملة وأنجزوا اتفاق اندماج الدولتين خلال عام. قبل التوقيع على الاتفاق الذي يعرف باسم اتفاق 24 التي ترمز إلى أطرافها: المنتصرون الأربعة وحكومتا برلين الشرقية وبون، طمأن الألمان دول الجوار وخصوصا أنهم تعلموا الدرس جيدا وأنهم استخلصوا العبر من حماقات وأخطاء وجرائم أسلافهم. حاول المؤتمر اليهودي العالمي عرقلة إعادة توحيد ألمانيا لكن جهوده لم تتكلل بالنجاح ولم تقتنع واشنطن بمحاولات المؤتمر اليهودي كي تعترف بنظام برلين الشرقية لأن الرئيس جورج بوش والد الرئيس الأميركي الحالي قرر مراعاة حلفائه الألمان. دول الجوار اقتنعت بالوحدة ولم تعد تخشى تكرار تجارب الماضي فقد اثبت الألمان بعد قرابة نصف قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية أنهم تابوا. عدا عن أن مصالحهم كانت تقضي بالتعاون مع ألمانيا. الولايات المتحدة التي كانت في نوفمبر/ تشرين الثاني تعد لحرب العراق بعد اجتياح الأخير أراضي الكويت كانت تشعر أنها بحاجة إلى الألمان. كما أن دول أوروبا الشرقية التي راحت تستقل عن الاتحاد السوفياتي أدركت أنه بوسعها الاستفادة من دعم ألمانيا لتقف على قدميها وتنضم للاتحاد الأوروبي. لم تتأخر ألمانيا في التجاوب وأثبتت أنها بوسعها القيام بدور عسكري من دون أن يكون لها أطماع بأرض فهي لم تشارك بحربي العراق العام 1991 والعام 2003 لكنها ساهمت في تمويل حرب تحرير الكويت بـ 17 مليار مارك وشاركت بحرب كوسوفو وأرسلت قوات لحفظ السلام إلى كمبوديا والصومال ومنطقة البلقان.

مع تسلم المستشار الاشتراكي غيرهارد شرودر السلطة في العام 1998 كان المستشار السابع وهو عكس الذين سبقوه لم يكن متأثرا بصورة مباشرة بالحرب العالمية الثانية واستغل الفرص التي سنحت أمام السياسة الخارجية الألمانية. في بداية حكمه توجب عليه إرسال جنود ألمان إلى معارك عسكرية لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إذ شاركوا في قصف يوغسلافيا السابقة كما أعلن بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول العام 2001 على الولايات المتحدة تضامن بلاده غير المحدود مع واشنطن في الحرب المناهضة للإرهاب إلى أن تبين له حين راح بوش يخطط لغزو العراق أن هذه الحرب تتجه في طريق معاكس ودعا إلى حل نزاع الشرق الأوسط بدلا من إثارة توترات جديدة في المنطقة. عارض شرودر حرب العراق العام 2003 وكافأه الناخبون في بلده بإعادة انتخابه في سبتمبر العام .2002 تعمل ألمانيا اليوم من أجل منع وقوع صدام جديد في الخليج بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" مع إيران المتهمة بالعمل في برنامج نووي لإنتاج أسلحة الدمار الشامل على رغم تأكيداتها أن هذا البرنامج مخصص لأغراض مدنية. في الغضون تحظى ألمانيا بثقة دولية واحترام يزيدان عن ثقة واحترام كثير من الدول لواشنطن في عهد بوش جونيور. من كان يتنبأ بذلك قبل 60 سنة كان ينتهي الأمر به في مستشفى المجانين

العدد 958 - الأربعاء 20 أبريل 2005م الموافق 11 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً