جاءت أنباء إقالة وزيرين قطريين وإعفاء رئيس الديوان الأميري من مناصبهم على خلفية "نشاطات غير مشروعة" كما أعلن رسميا الأسبوع الماضي لتعطي دلالات جديدة وكثيرة على الأسلوب الأمثل الذي يجب أن ينطلق منه الإصلاح: إزالة الخلايا السرطانية التي تنهش بدن الأمة واستئصالها استئصالا نهائيا! كنت في قطر الأسبوع الماضي، ومن حسن حظي أنني لمست من خلال مشهد بسيط، كيف يأتي الإصلاح الاقتصادي الحقيقي بنتائج سريعة. .. ذلك المشهد البسيط هو أنني اضطررت إلى الوقوف خارج مطار الدوحة ساعة كاملة وذلك بسبب إشغال كل سيارات نقل المسافرين، سواء التابعة إلى الشركات أم سواق الأجرة! إن في ذلك إشارة إلى النشاط الاقتصادي العارم الذي تشهده الدوحة في تنام مستمر.
وعودة إلى موضوع إقالة المسئولين القطريين - وهو في الحقيقة موضوع على قدر كبير من الأهمية - أقول إنه لا يمكن القضاء على الفساد المالي والإداري وإيقاف التعدي على المال العام والاختلاس من موازنات الدولة من خلال شعارات "مكافحة الفساد" بل من خلال نظام قانوني متكامل لا يتوقف عند وضع رزمة من البنود بل يتواصل إلى "السجون" التي يرمى فيها كل مسئول تجاوز حدوده، ودمر من اقتصاد البلد ما دمر، وهتك من قوانينها ما هتك، وأساء استغلال منصبه أيما إساءة... لا يمكن، في أي حال من الأحوال، أن تعين الدول وزيرين في حقيبة وزارية واحدة... أحدهما للسرقة والفساد المالي والإداري والأخلاقي وقل ما شئت، والثاني للإصلاح والتعديل والتبديل!
بالنسبة إلى القضية القطرية، فإن ما حدث حقق صدى إيجابيا كبيرا في الشارع القطري الشعبي قبل الحكومي... لقد ارتبطت القضية بتجاوزات غير قانونية قام بها عدد من الوزراء ورجال الأعمال عند الاكتتاب في شركة "ناقلات الغاز" في مطلع سنة ،2005 أضف إلى ذلك أن التحقيق أثبت أن 131 شخصا من المتوفين اكتتبوا في ناقلات بقيمة خمسة ملايين ريال، وأن بطاقة أكثر من متوفى بيعت لأكثر من شخص، كما أن عمليات التدقيق أثبتت أن 72 شخصا اكتتبوا بأسماء نحو ثلاثة آلاف و152 شخصا قاموا بشراء بطاقاتهم.
إن حركة التصحيح تستوجب اتخاذ إجراءات صارمة ضد المفسدين والسراق ولاسيما أن هناك أدلة وقرائن قوية على تورط البعض في قضايا الفساد. وللأسف، هناك من المفسدين في الجهاز الحكومي من لايزالون يعيثون الفساد، فهل تظنون أن أمرا إيجابيا سيحدث في المستقبل مع وجود "بؤرة فساد"؟ أبدا أبدا!
إن التغييرات المثيرة للاهتمام والمتسارعة التي تشهدها دولة قطر تأتي استجابة لتطلعات وتصورات الإصلاح التي يمكن تركزها باستثمار مجمل الإمكانات الوطنية لضمان المستقبل الأفضل، إذ إنه لتحقيق هذه التطلعات والتصورات لابد من تقوية الشعور بالانتماء لدى المواطنين عن طريق إرساء دعائم مشاركتهم الفعالة في شئون الشعب والبلاد.
إن أولى هذه الدعائم هي بناء الديمقراطية، لذلك فمن الأهمية بمكان التوجه إلى بناء دولة الدستور والقانون والمؤسسات وضمان حقوق المواطنين رجالا ونساء ومساواتهم أمام القانون في الحقوق والواجبات لتمكينهم من بناء الوطن.
على الجانب الاقتصادي، وهذه حال مقارنة بين المنامة والدوحة، تتواصل الجهود في ميدان التنمية الاقتصادية الشاملة في شتى القطاعات، فقد تم تطوير قطاع النفط والغاز والبتروكيماويات، لتصبح قطر من أكبر مصدري الغاز في العالم وتنويع مصادر التمويل وجذب الاستثمارات الأجنبية لهذا القطاع، وتم إنشاء مركز قطر للمال والأعمال حديثا من أجل جعل قطر مركزا ماليا واستثماريا عالميا، بالإضافة إلى تطوير المنطقة الحرة وميناء الدوحة والمطار والسماح بدخول الأجانب في سوق الأوراق المالية وتملكهم في قطاع العقارات.
إن من بين هذه الجهود أيضا تأمين ما يساعد على تحقيق أهداف الإنجازات على أساس إنجاح خطط التنمية من خلال برنامج متكامل يتضمن خطة عمرانية تتواصل مع الجهود التخطيطية، مع الأخذ في الاعتبار المشروعات المستقبلية.
وأتفق هنا مع الصحافي جواد عبدالوهاب، إذ قال نصا: "ومن هنا نرى أن الربط المحكم بين التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية والتنمية الإدارية يستدعي ضبطا للمفاهيم السياسية والاجتماعية التي ترتكز إليها هذه التنمية المتعددة الجوانب والتي تلخص بمفهوم التنمية الشاملة.
ولعل من أهم مهمات اللجان الملكية التي جرى تشكيلها منذ إعلان مشروع جلالة الملك الإصلاحي هو ملء هذه الهياكل العامة بالبرامج والخطط التفصيلية الملائمة في ضوء الإمكانات والموارد المتاحة وفي إطار فهم عميق ومتجدد ومتطور للمرحلة الراهنة في مجتمعنا وهي مرحلة التحديث والتجديد أو إعادة البناء برؤى عصرية. وهذا ما جعل جلالته يطالب دائما بإعداد أجندة وطنية بحرينية تحدد الأولويات وتربطها بالإمكانات المتاحة والمنظورة وبالطاقات والكفاءات القادرة على تنفيذها، وفقا لاحتياجات الوطن والمواطن، وصولا إلى الأهداف التي يطمح جلالته إلى الوصول إليها والتي من أجلها جاء ميثاق العمل الوطني.
إن التنمية الشاملة التي يطمح إليها جلالة الملك تعني تطوير الاقتصاد الوطني، وهذا يتأتى عن طريق تعظيم الإنتاج وترشيد الاستهلاك وخفض الإنفاق العام، وتقليل الاستيراد، وزيادة حجم الاستثمارات الداخلية والخارجية، وهذا يحتاج إلى آليات عمل جديدة وخبرات وكفاءات لا نظن أنها نادرة في بلادنا"... "انتهى الاقتباس".
كذلك، أتذكر ما طرحه النائب علي مطر في ندوة للشفافية، إذ شدد على أهمية تكاتف كل أفراد المجتمع لمواجهة آفة الفساد بأشكاله كافة، إذ إننا جميعا في سفينة واحدة وما يحدث لفرد يحسب على الآخرين بشكل مباشر أو غير مباشر، وان من أبرز ما يلاحظه النواب في مجال عملهم هو وجود الكثير من حالات الفساد التي يتخوف شهودها من الإفصاح عنها خوفا من فقدان الوظيفة أو لأية أسباب أخرى. إن القضاء على الفساد يتطلب صحوة ثقافية تبين مخاطره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنشر الوعي بكلفه العالية، وإن استراتيجية محاربة الفساد تتطلب استخدام وسائل شاملة ومتواصلة ومتنوعة سياسية وقانونية وجماهيرية، ومن هذه مثلا ضمان فصل السلطات بشكل عملي، وسيادة القانون من خلال خضوع الجميع له واحترامه والمساواة أمامه، وتنفيذ أحكامه من جميع الأطراف كما يؤكد الباحث الاقتصادي جاسم العجمي.
* رجل أعمال وكاتب بحريني
العدد 951 - الأربعاء 13 أبريل 2005م الموافق 04 ربيع الاول 1426هـ