أخيرا وبعد ولادة تعثرت طويلا، صدر قبل أيام التقرير الثالث للتنمية الإنسانية العربية بعنوان حاكم هو " نحو الحرية في الوطن العربي"، دائرا في فلك سياسي اجتماعي فكري واحد، مع التقريرين السابقين، قاصدا البحث عن طريق نحو النهضة العربية الحديثة، وهادفا أيضا للاجابة على استفسار ملح هو لماذا لم تهب علينا رياح الحرية والديمقراطية التي تلف العالم حتى الآن، وبدلا منها اندلع العنف؟! وتتتالى محاولات الاجابة على أسئلة واستفسارات كثيرة من نوع، لماذا نحن فقط أصحاب الحكم الشمولي والاستبدادي، لماذا فشلت تجارب الاصلاح من قبل؟، لماذا لم نعرف "الحكم الصالح الرشيد" القائم على آليات ديمقراطية؟، لماذا تخصصنا في الإصلاح بالنقطة "الحزئي المبتور"؟، لماذا أنظمة حكمنا تفتقد الشرعية الشعبية القائمة على الانتخاب الحر؟، لماذا الحريات العامة، خصوصا الصحافة والرأي والتعبير منتهكة؟، أليس كل هذه دوافع للعنف والتطرف؟!.
حسنا... صدر التقرير الذي تشرف عليه الأمم المتحدة "البرنامج الانمائي" وشارك في إعداده، كما في اعداد التقريرين السابقين، مئات من خيرة العقول والرؤى والمثقفين والمتخصصين العرب، ليرسم خريطة طريق طويل نحو النهضة العربية، وليحاول سد فجوات كثيرة، مثل النواقص الثلاث الشهيرة، نقص الحرية، ونقص المعرفة، ونقص دور المرأة في المجتمع!
وأحسب أن ضجيجا وصخبا عاليا، سيلف الآفاق بشأن التقرير الثالث هذا، لأنه الأكثر حساسية والأكثر جدلا واثارة، ولانه يتناول بالدراسة والفحص والنقد المنهج والصراحة الجارحة، القضية الأساسية والمطروحة بشدة هذه الأيام، قضية الحرية والديمقراطية واقامة الحكم الرشيد في بلادنا، الموهومة تاريخيا بالاستبداد!
فقد عودتنا التربية السياسية المغلقة في ظل النظم الحاكمة، على عدم مصارحة أنفسنا بنواقصنا، من أجل تصحيحها، مقابل نقد نواقصنا وتشريح قانونا واستبدادنا، إن جاء من الخارج، وهذه حقيقة أخرى!!
وهذه المرة، الأمر مختلف، عن ما ورد في التقرير موضع كلامنا، لأنه يدرس ويتعمق، يشرح ويفسر، ينقد ويهاجم بأسلوب علمي وموضوعي إلى حد لافت النظر، نظرنا ونظر الآخرين.
وهو بحكم هذه الموضوعية والأسلوب والمنهج النقدي، تقرير خلافي بالضرورة، وحمال أوجه، نؤكد مسبقا أن حكومتنا "الرشيدة"! ستنظر إليه على أنه منشور مضاد ومعادي، هدفه التشهير بها في الخارج، والتحريض عليها في الداخل، وربما ستضع كاتبيه في خانة "العملاء المضللين"!
وفي المقابل تأخذ منه أميركا ومعها أوروبا، الضاغطة من أجل الإصلاح الديمقراطي في بلادنا "شهادة شاهد من أهلها"، وتستغله بالتالي سلاحا للضغط والابتزاز ضد النظم العربية الحاكمة، المتهمة بالفساد والاستبداد، ومبررا حاهزا للتدخل في الشئون الداخلية، كما فعلت من قبل بالتقريرين الأولين، وصولا لاستشهاد الرئيس بوش ووزير خارجيته السابق "كولين باول" والوزيرة الحالية "كوندليزا رايس" بفقرات من هذين التقريرين، بل قاموا أو برروا بمعنى أصح، مشروع الشرق الأوسط الكبير الموسع، لكثير من جوانب النقص التي جاءت في التقريرين... فما بالك بالثالث!
وفي كل الأحوال قلبي على واضعي التقرير والمشتركين فيه، لأنهم سيصابون بالرصاص الطائش في ساحة الصدام بشأن الإصلاح الديمقراطي، سيصابون بالنيران الصديقة والعدوة على السواء، ومعهم للأسف كل دعاة الإصلاح الحقيقي!
وبصرف النظر عن هذا وذاك، فالحقيقة أنه في رأينا الشخصي، التقرير ونقد أوضاع ودعوة اصلاح ونداء مستقبل وبرنامج عمل ومشورة تطوعية ونصيحة خالصة، لمن شاء أن يستجيب من حكامنا، لنداء الشعوب وصحوتها الظاهرة ومطالبتها القوية بالتغيير واطلاق الحريات وبناء الحكم الصالح، قبل الخضوع والانصياع للضغوط الاميركية المدعومة أوروبيا، التي تفرض كما يعرف الجميع، وصفتها وقيمها وأهدافها من الإصلاح الديمقراطي الذي تعنيه، والذي قد يوافق أوضاعنا وقد لا يوافقها أو يوافقنا!
ان هذا التقرير بما فيه من نقد صارخ لغياب الديمقراطية وانتهاك الحريات وشيوع الفساد والاستبداد في بلادنا، وبما يحمل من اقتراحات عملية وبرامج عمل موضوعية، يساند ويدعم هبة الشارع وصرخة المظلومين المقهورين، ومسيرات الإصلاح، التي تعبر عن حراك سياسي اجتماعي يكتسب قوة وعنفوانا كل يوم، استباقا للتدخل الأجنبي...
أم أن هذا الحراك المتسع الذي يستقطب الناس ويعبئ المجتمع المدني، هو الذي يدعم الأفكار الحاكمة والمطالبات المشروعة التي جاءت في ثنايا التقرير، نحو الحرية، ورفضا لتلكؤ الحكومات وتهربها من الإصلاح الوطني الحقيقي، حتى فاجأتها الضغوط الخارجية والمتغيرات الدولية، وهي في أشد الأوضاع حرجا، إذ غضب وتمرد في الداخل، وعنف مدمر يهدد الجميع، وجيوش أجنبية تستبيح السيادة الوطنية للدول، واصلاحات مستوردة يجرى فرضها، وعلى العاصي تدور الدوائر!
ولأن هذا المقال في هذه المساحة المحدودة، لا يتسع للإلمام بكل القضايا والأفكار الحاكمة في التقرير، فإنني التقط بعضها، وخصوصا قضية "شرعية نظم الحكم" في بلادنا، وكم نعلم أنها بالغة الحساسية ليس من ناحيتنا، ولكن من ناحية أصحاب الحكم، لأنها في البداية ولأنهم في النهاية، جاءوا إلى السلطة بطرق تفتقد الشرعية الشعبية، أي تلك القائمة على الاختيار الحر والانتخاب النظيف من جانب المواطنين الأحرار.
وهي في معظمها، كما يصنفها التقرير، نظم فردية شمولية مطلقة السلطات، تفتقد الشرعية الشعبية والدستورية، تعلو على المحاسبة وترفض المساءلة، وتحتقر الشفافية وتصادر المشاركة، وتنكر بالتالي تداول السلطة، وتكبت حرية الصحافة والرأي والتعبير، مثل كل الحريات، وتنتهك حقوق الإنسان، فماذا بقي لها من غطاء يمكن أن يضفي عليها أية شرعية!
ولا يكتفي التقرير بشرح الحال وتفسير المقال، لكنه ينصح هذه النظم بقلب الاسطوانة، اي بالقيام بعكس ما تقوم به الأن، حتى تستقر الأوضاع وتتقدم الأمة وتنهض الأوطان... فهل يمكن أن يحدث هذا في حياتنا؟!
في المقابل... ماذا يحدث إن لم تبادر نظم حكمنا بالإصلاح المجتمعي المطلق... التقرير أثار قضية اريد ان اتوقف امامها هي قضية " التحذير من اندلاع العنف"، إن ظلت الإصلاحات تكأ في الطرقات.
لا أظن ان هناك من ينكر تنامي مظاهر العنف الدامي على امتداد الخريطة العربية، من المغرب إلى العراق، ومن الجزائر إلى السعودية، ومن مصر إلى السودان، ومن اليمن إلى فلسطين ولبنان، لم تعد دولة واحدة بمنجاة من هذا الخطر الأسود، لا الدول الغنية ولا الفقيرة، لا الدول الكبيرة ولا الصغيرة، لكن الداء تسلل إلى الشرايين... فلماذا؟!
لا ننكر أن "إسرائيل" جزء رئيسي من مكونات ومشعلات العنف، ولا ننكر أن الحروب الاميركية الهاجمة باسم مكافحة الارهاب، محرض آخر وقوي للعنف ومثير جديد للمقاومة، وربما التطرف ايضا، لكننا في المقابل لا يجب أن ننكر أن تربتنا وبيئتنا الداخلية هي الأرض التي يشتعل فيها وعليها العنف الآن، وهذه هي القضية الحاكمة التي عالجها التقرير المثير.
إن تحالف الفقر والقهر "غياب التنمية والديمقراطية" في الداخل، وهجوم التدخل الاستعماري الجديد والهيمنة الاميركية من الخارج، يؤدي حتما إلى انفجار العنف والرفض والتمرد في الشارع، ويطلق العنان للمسيرات والمظاهرات المطالبة بالإصلاح الحقيقي، واطلاق الحريات والعودة لحق المواطن في انتخاب حاكمة، والتعبير عن رأيه بكل الطرق الشرعية، التي قد تنقلب إلى طرق غير شرعية، إن ظلت القنوات مسدودة والطرق مغلقة في طريق الأمل والمستقبل.
بقيت ملاحظتان نختتم بهما اليوم، الأولى هي تحذيرنا العالي من اعتبار البعض أن هذا التقرير هو "مانفستو الثورة الجديدة"، واعتبار البعض الآخر، ان مجرد "منشور تحريضي" معاد يستحق العقاب... هو في الحقيقة تقرير حال ومشورة تطوعية ونصيحة خالصة.
والملاحظة الثانية هي هذه الازدواجية الاميركية الفجة، واشنطن ترحب بالنقد الوارد في التقرير للأوضاع العربية المتخلفة، وخصوصا للاستبداد الحاكم، لكنها تغضب وترفض مجرد ذكر كلمات عن الاستبداد العدواني الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وتحتج على قول التقرير إن الممارسات الدامية لقوات الاحتلال الاميركية في العراق، قد ساعدت على اندلاع العنف في المنطقة! وبسبب ضغوط هذه الازدواجية، تعدلت صياغات عدة في التقرير...
قال تميم بن مقابل:
هم المانعون الحق من عند أصله
بأحلامهم حتى تصاب مفاصله
* مدير تحرير صحيفة "الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 950 - الثلثاء 12 أبريل 2005م الموافق 03 ربيع الاول 1426هـ