كثُر الكلام في الآونة الأخيرة عن احتفاليات يوم القدس العالمي وأهمية الاحتفال بهذا اليوم من عدم الأهمية، وأكثر هذه الآراء التي نَحَت إلى الاهتمام بهذا اليوم أو الإشاحة عنه أتت من منطلقات متشابهة في الغالب، إذ كان الانتماء المذهبي هو العنوان الأعرض للرأيين على السوية.
يتهكم البعض على أن عددا لا بأس به من الحكام العرب - والثوريين منهم خاصة - يدعون الله ليل نهار بألا تجد القضية الفلسطينية طريقها إلى الحل، إذ أن القضية إذا حلت لن يجد هؤلاء الحكام ما يبررون به بقاءهم في السلطة مرتدين بزاتهم العسكرية، مرصعينها بأكداس من المعادن اللامعة، كاتمين على أنفاس الناس حتى لا يتكلموا، ولكي لا يعلو صوت فوق صوت المعركة، حتى تتوجه الجهود من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني. وشيئا فشيئا انتقلت العدوى من الحكام إلى القواعد الشعبية، فتحقق معنى الحديث الشريف «كما تكونوا يولَّ عليكم» كما تحقق القول الصيني القديم: «كما تكونوا تكن رعاياكم»، فصارت الوجوه الاجتماعية بدورها تتنافس في التزلف لهذه القضية كلما ضاقت بها السبل في الوصول إلى استقطاب الجماهير من حولها، بل صارت الاحتفاليات بالقضية الفلسطينية الطُّعم الأولي للاجتماعات وإظهار حسن النوايا القومية والدينية، كلٌّ كما يحب أن يظهر. وليس الاحتفال بيوم القدس العالمي إلا واحدا من الاحتفالات الكثيرة العفوية والمنظمة التي تقام على شكل مسيرات في عدد من مدن العالم - وعلى امتداد العام لمناصرة القضية الفلسطينية، ولكن لماذا اكتسب احتفال الجمعة اليتيمة من رمضان هذا العام شيئا من العتاب والتلاوم بين من يدعون إلى الاحتفال بهذا اليوم وبين من يشعرون بفتور حياله؟
لنفتح باب الصراحة حتى لا نتحدث من وراء حجاب، لنقول إن السبب في هذا التجاذب هو مصدر انطلاق الدعوة ذاتها، ففي حين يقترب الشيعة من وضع هذا اليوم من ضمن «الروزنامة» الاحتفالية بالمواليد والوفيات والمناسبات السنوية، أو هم قد وضعوه حقيقة، ترى طائفة من السنة أن هذا الأمر أضحى خاصا بمذهب بعينه، وبالتالي فإن الاحتفال بهذا اليوم تحديدا هو انتصار للمذهب الآخر.
فلو أمعن السواد الأعظم من الطرفين لرأى أنه يحمل من أسباب جفوة الطرف الآخر وتوجسه ما يجعل أهل مسيرة ذلك اليوم يكونون في المسيرة، ومن قعد عنها قد قعد، كلٌّ لأسبابه الموضوعية.
فلو أن هذه الدعوة إلى الاحتفال بيوم القدس العالمي قد خرجت من شخصية غير دينية، غير شيعية، وليست في وزن الإمام الراحل آية الله الخميني، لما قام لها الشيعة، ولما قعد عنها السنة، ولو أن الشعارات التي ترفع اختلفت عن «هل من ناصر فدائي...لبيك خامنئي» لتغيَّر الوضع قليلا، ولو أن أعلام «حزب الله» - وهو فوق أنه الفصيل الأكثر فاعلية حاليا في المقاومة اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي، فإنه معروف التوجه والمصدر والمنبع والرئاسة والتوجيه - قد اختفت وحلت محلها أعلام فلسطين من دون ما تشتيت للقضية وربطها بأطر أخرى من العمل، أقول لو حدث هذا، لربما تغير الوضع قليلا وصار للقاء مكان وإمكان.
ولو طرد أتباع مذهب السنة والجماعة من أذهانهم - أو جمدوا على الأقل إلى وقت لاحق - هواجس «الذوبان» في مشروعات الطرف الآخر، والخشية من امّحاء الخصوصية، والتخوف من أن يكونوا مجرد تكملة عدد تجميلية لمشروع لا ناقة لهم فيه ولا جمل - ليس موضوع فلسطين بذاته، بل المناسبة ذاتها - لربما اقترب الطرفان إلى منتصف المسافة. إنّ الحرص على صبغ يوم القدس بصبغات خاصة، أمرٌ أبعد ما يصب في منفعة القدس، إذ يصبح الأمر حينها استعراضا للذات، ونوعا من المَنِّ على القضية الفلسطينية بأن هذا الاتجاه، أو ذاك الحزب، أو تلك الطائفة ناصرت القضية المركزية أكثر من غيرها، أو حشدت لها من الجموع ما لم تحشده الجهات الأخرى، ورفعت أعلاما أكثر من غيرها، وارتفعت عقيرة المنتمين إليها بأعلى مما ارتفعت به عقيرة الآخرين.
إن الاحتفال بيوم القدس العالمي، يحيلنا إلى مجموعة من الكتابات التي كانت تزخر بها المنتديات في الإنترنت قبل حوالي سنتين في مناسبة مشابهة حين تداعت الجمعيات السياسية إلى الانتصار لفلسطين، في أحد مساءات شهر سبتمبر/أيلول من العام 2001، إذ تكرر المشهد ذاته، بالسيناريو ذاته: يتجمع الناس...ينطلقون في مسيرة واحدة حاشدة لها شعارات موحدة...ثم ما تلبث المسيرة أن تنقسم إلى جزأين، الشعارات تتقسم بدورها...الأعلام تتقسم أيضا.
في تلك المسيرة، في الجو «السبتمبري» الخانق، وجد الحاضرون - غير المتلونين بالانتماء إلى أية جبهة أو جهة - أنفسهم في حيرة من أمرهم، فمجموعة كانت تنادي بـ «فتحها عمر، وحررها صلاح الدين...فمن لها اليوم؟»، والأخرى لا تنفك تردد «قال الإمام الخميني: إسرائيل هذه حتما ستزول»، والممعن في ما حدث - ويحدث إلى اليوم في هذا الشأن - يستطيع أن يعرف أن عيون قادة الفريقين ليست على فلسطين في هذه الحال، إنما على قدر ما يحدثه أتباعهم من تأثير في هذا المكان الضيق الذي تمشي فيه المسيرة... نوع من الاستعراض الصبياني الفج.
إن الوقوع في أسر التاريخ الذهبي لفتح عمر بن الخطاب (رض) للقدس، وتحرير صلاح الدين لها، لن يغني عن الواقع شيئا، ولن يزيد في مثل هذه المسيرات المختلطة إلا بلبلة ونفورا، لأن الرجلين - التصاقا بالمصارحة - غير مقبولين - وهذا ألطف تعبير - من الطائفة الشيعية.
كما أن مقولة الإمام الخميني بأن «إسرائيل هذه حتما ستزول» ليس فيها شيء جديد ليُحْتَفى به، فأي قارئ مبتدئ للتاريخ يعرف تماما أن أية دولة في العالم ستزول، وأنه «لو دامت لغيرك لما وصلت إليك»، وأن في التاريخ دول أعظم وأغنى وأوسع رقعة، وأكثر منعة من «إسرائيل» زالت عن الوجود، بل إن أميركا، وهي القطب الأقوى في وقتنا اليوم، لم ينفك الدارسون والمحللون من داخلها من التحذير من انهيار اتحادهم، وتفكك الولايات إلى دويلات أو جهات (شرق وغرب تحديدا)، على رغم ما هي عليه من غنى وقوة وجبروت، وبالتالي فإنه - تخفيفا للاحتقان - يمكن حجب هذه المقولة، وغيرها من مقولات التلبية لأفراد بعينهم يختلف الناس حولهم إذا ما أريد لمناسبة كهذه، ومناسبات أخرى أن تكون حاشدة للناس، كل الناس، في هذا البلد، وحتى لا يتحسس أحد جراءها. لذلك، فإنه من قبيل التحامل غير المبرر أن يجتهد البعض في الإشاحة عن يوم القدس، بل ويدعو إلى عدم المشاركة فيه، فقط لأن مطلق هذه الدعوة هو من غير مذهبه، وأن المذهب الآخر يتعامل مع هذا اليوم بصفة الإلزام، لأن تخصيص يوم للقدس أمر محمود في حد ذاته، وليته يخرج من إسار رفع القبضات في الهواء، إلى إدخالها في الجيوب والتبرع لصالح الفقراء والمجاهدين والمستشفيات والأطفال والتعليم والتصنيع في فلسطين.
لو نظرنا إلى طبيعة مجتمعنا، المجتمع الذي لم يزده الانفتاح إلا انغلاقا (ما عدا بضع لمحات وومضات سرعان ما خبت) لوجدنا أن أكثر مشكلاتنا هي من جراء ما استوردناه من مفاهيم ودعوات أتت إلينا من شرقنا وغربنا، فليتنا نصنع يوما للقدس خاصا بنا، وليس ضروريا أن يكون «عالميا»، لنسميه - إن شئنا - «يوم القدس البحريني»، وليكن في أي يوم نتفق عليه جميعا، نرفع فيه أعلاما تخص هذه المناسبة وحدها، وشعارات تجمع الناس ولا تفرقهم، ويندمج السائرون في موكب واحد ولا يتجزأ الموكب إلى اثنين، يسير الناس فيه أكتافهم متلاصقة، إيقاع خطواتهم ثابتة، وصناديق مشتركة يصبون فيها «أضعف الإيمان»...قليل من المال، فلا «عمر» سيسعده انقسام الناس، ولا «حزب الله» ستقوى شوكته برفع علمه في سماء لا أرض له تحتها
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 95 - الإثنين 09 ديسمبر 2002م الموافق 04 شوال 1423هـ