في اليوم الذي أقسم فيه وزير المالية الكويتي الجديد القسم الدستوري، بديلا عن وزير مستجوب في مجلس الأمة قدم استقالته، استجوب وزير الصحة في البرلمان وقدم هو أيضا استقالته فورا من الوزارة، وفقط بعد يومين من دخول وزير جديد للإعلام، بعد أن تعرض من سبقه في حمل الحقيبة لاستجواب عاصف منذ أشهر قليلة خلت، وتم تهديد الجديد بالاستجواب من بعض الأعضاء.
فتح تلاحق دائرة التوزير والاستجواب والاستقالة، وخصوصا ظروف استقالة وزير الصحة، ملفا أريد له أن يتجاهل لفترة طويلة، وهو قضية نضج العمل السياسي واستقراره على ضوء تجاذبات عنوانها التهديد الدائم بالاستجواب، الذي حققت الوزارة الحالية قصب السبق فيه.
طرح الممارسة الديمقراطية في الكويت على بساط البحث والتي هي الأسبق في الخليج، أصبح أحد الأولويات في العمل السياسي، وظهرت الحاجة لهذا النقاش لعدد من الأسباب، منها أن بعض من انتخبهم الشعب الكويتي ديمقراطيا، قرروا عن سبق إصرار حرمان نصف المجتمع الكويتي "النساء" من حقهن الطبيعي والإنساني للمشاركة في إدارة شئون بلدهن، فبقيت الكويت الوحيدة بين الدول التي تمارس شعوبها التصويت العام التي تسمح للرجال "فقط" بممارسة الديمقراطية التمثيلية، وتحرم منه النساء!
ثم جاءت التهديدات بالاستجوابات المتلاحقة، التي هي حق ديمقراطي تعسف البعض في استخدامه، لتزيد من حيرة المواطن، وخصوصا أن بعضا منه مورس على أساس طائفي أو قبلي من أجل المحاصصة السياسية التي لا تقدم تجويدا للعمل العام، بل تزيده ابتلاء، ولم تثر العمل السياسي أو الخدمي، في الوقت الذي يتطلع قطاع واسع من الشعب للتجويد، في ظل تنافس محموم إقليميا لتقديم الأجود والأنفع للناس، ومتطلبات استراتيجية ملحة في التعليم والعلاج والاقتصاد، وتفعيل المجتمع المدني.
وتعاضدت بعد ذلك سلبية الممارسة بسوء الفهم في تعطيل واضح للإدارة الحكومية التي تشتكي نفسها من كثرة التدخلات من بعض الجسم التشريعي حتى أقعدتها تلك التدخلات عن تنفيذ مهماتها الرئيسية في خدمة المواطن، إلى درجة أن نائب رئيس المجلس النيابي مشاري العنجري نشر له رأيا أحسبه سيتصدر دراسات مستقبلية بشأن التطبيق الديمقراطي في الكويت، قال: "إن النائب سجين الناخب والوزير سجين النائب"، في إشارة مختصرة ولكنها بالغة الدلالة على أهمية إعادة النظر في الممارسة الديمقراطية الكويتية التي مضى على بدئها نيف وأربعون عاما من دون أن تتطور.
الديمقراطية هـي أسلوب حكم وطريقة حياة، وهدف ونموذج وآلية، وهي قبل هذا وذاك فلسفة سياسية. والصفة الرئيسية في النظام الديمقراطي هي مسئولية الحكام عن أفعالهم أمام مواطنيهم الذين يمارسون دورهم الرقابي والتشريعي بطريقة غير مباشرة من خلال تنافس ممثليهم المنتخبين وتعاونهم مع السلطة التنفيذية لصالح مجموع الشعب.
غير أن هذه القراءة للممارسة الديمقراطية في العالم الثالث تنطوي على قدر كبير من السذاجة السياسية، بالقدر نفسه الذي تنطوي فيه على تزييف للتاريخ. فالتاريخ الموضوعي هو محاولة لوصف فترة ما كما هي، وليس مجرد اقتحامها من أجل منح القداسة لفكرة، هي أيضا في نظر البعض "أيديولوجية" خدمت مصالح البعض وأضرت بمصالح البعض الآخر، وحققت السعادة للبعض القليل وجلبت التعاسة لآخرين كثر. التاريخ الصحيح يجب أن يقرأ بمنطقه الخاص، وفي سياقه الخاص بعيدا عن لي عنقه لتسويغ محاولات فرض الهيمنة من خلال نظام ظاهره فيه الرحمة وباطنه الممارس فيه العذاب. نظام يستسهل إصدار الأحكام ويستبعد الحوار.
لضرب المثال فقط لا غير، لعل ما يجري الآن من "ممارسة" للديمقراطية في الكويت، يشابه تاريخيا تلك الموجة من التفاؤل التي سادت العالم عندما غزت المسيحية أوروبا وعالم البحر المتوسط في القرن الرابع الميلادي. ولكن المسيحية لم تكن طبعا استاتيكية جامدة، فقد استمرت في التطور إلى مذاهب وفرق تأثرت بدورها بالجغرافيا وبثقافات الأمكنة التي ضربت جذورها فيها. ولعلنا نتذكر تلك المقولة الشهيرة: "إن المسيحية عندما دخلت روما لم تتمسح روما، وإنما ترومت المسيحية". وهكذا تحولت الكنيسة التي أسسها القديس بطرس إلى منظمة روحية بيروقراطية أدينت بمسئوليتها عن فترات طويلة من العنف والتعصب الأعمى وعصور الظلام التي لفت أوروبا. ولم تجعل المسيحية العالم أكثر أمنا، بل إنها لم تجعله في الممارسة أكثر أخلاقية، ولكنها جعلته أكثر تعقيدا. وهكذا فإن الديمقراطية، التي يبدو أن العالم يطالب بها اليوم، ستفعل في بعض المجتمعات كما فعلت المسيحية ذات يوم، ربما تفعل أكثر من ذلك إذا فهمت أنها محاصصة... لأنها تتلون بألوان البيئة، وتضفي عليها شعارات خارجة عن فلسفتها، وممارسات متناقضة مع أهدافها. وهي بإيجاز "سكر مر الطعم"، إن أردنا التشبيه، فان أخذت على شكلها الخارجي، ومزجت بممارسات اجتماعية تقليدية، حققت عكس ما أريد منها.
الديمقراطية المشوهة يلاحقها شبح الذي أول من دق إسفينه فيها كان أوليفر كرومويل، الفارس النموذجي الذي شيد، في سياق دفاعه عن البرلمان ضد الملكية في بريطانيا، نظاما استبداديا أسوأ من كل الأنظمة الاستبدادية الأخرى التي عرفت في ظل الملوك الإنجليز.
ويشير كابلن في كتابه "الديمقراطية المشوهة" بالقول إن الديموقراطية لا تجعل المجتمعات دائما أكثر تحضرا، لكنها تفضح دوما وبلا رحمة صحة المجتمعات التي تعمل فيها. فكما جاءت الديمقراطية بكرومويل، فإنها أوصلت أيضا كلا من هتلر وموسوليني إلى السلطة، وقادت الديمقراطية في رواندا إلى مذابح يندى لها جبين البشرية. وفي قلب أوروبا الديمقراطية الليبرالية المتحضرة، أدت الديمقراطية في جمهوريات يوغوسلافيا السابقة إلى أبشـع جرائم التطهير العرقي التي عرفتها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إنها تخرج أمراض المجتمعات إلى العلن، ومن دون علاج تلك الأمراض لا يرجى الشفاء بترياق الديمقراطية.
ومن الوقائع المهمة ذات الدلالة عربيا، وكيف يمكن أن يحلم السذج باسم الديمقراطية، ما ذكره "الكاتب المعروف" محمد حسنين هيكل عن اجتماعه إلى الرئيس المصري الراحل أنور السادات ونائبه حسين الشافعي ليلة 13 مايو/ أيار .1971 وكان الرئيس السادات يستعد لتسجيل خطاب متلفز إلى الأمة يشرح فيها خلافه مع ما سمي لاحقا بمراكز القوى. واقترح السادات عليهما أن يدور خطابه حول منع مراكز القوى له من التفاوض مع وزير الخارجية السابق وليم روجرز، فقال له هيكل: "لا يهم إن كانوا قد منعوك أو يمنعوك من التفاوض مع وليم روجرز. إن هناك قضية أخرى تسبق غيرها في ضمير كل الناس هي قضية الديمقراطية. هذه هي النقطة التي أرى أن تركز عليها خطابك الآن". واقتنع الرئيس، كما قال هيكل، بأن لا يشير إلى حكاية روجرز، ويركز خطابه بالكامل على الديمقراطية، وكان حديث السادات عن الديمقراطية وسيادة القانون، ورفع حال الطوارئ، وعن هدمه للمعتقلات، ومنعه لزوار الفجر، هو الباب الملكي والرافعة التي أوصلته إلى قلوب المصريين، على رغم أنه سيقوم بعد عقد واحد فقط من السنين، بوضع كل رموز القوى السياسية المصرية في السجن لأنهم ببساطة اختلفوا معه، وعلى رأسهم ناصحه الأثير هيكل نفسه! فكان السادات على رغم المناداة المعلنة، يستسهل الأوامر ويستصعب الحوار!
لقد آن أن تفتح بوابة الإصلاح الديمقراطي في الكويت على مصراعيها، فلم يعد الزمن ولا الحال التنموية الكويتية ولا الواقع الدولي، يسمح بنصف ديمقراطية أو المراوحة في المكان. ديمقراطية يتحكم فيها القلة من الرجال، ويمثل المال والعلاقة العائلية والقبلية والفئوية محور حركتها، الباب الكبير هو في إصلاح الخلل الذي طال أمده، وفي إطلاق ديناميكية تحقق الوصول إلى مجتمع متنوع واندماجي وقابل للانصهار، وقد تبدأ تلك الدينامكية في تغيير حقيقي لقانون الانتخاب، وتمكين المرأة، وتوسيع الدائرة الانتخابية، للحيلولة أو تقليل تأثير الشرور الثلاث في الانتخابات التي طال مكوثها، وهي سلطة الرشوة المالية وتأثير القبلية السلبي والمصالح الشخصية.
وربما أردف كل ذلك بالتفكير في السماح بأحزاب سياسية على قاعدة مدنية، وتأكيد استقلال القضاء، ليستقيم الأمر الديمقراطي بالابتهاج بالاختلاف المنظم.
وقتها لا يحتاج سمو رئيس الوزراء للبحث عن "ملائكة" للوزارة، بل يحتاج إلى مواطنين أكفاء.
* كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 949 - الإثنين 11 أبريل 2005م الموافق 02 ربيع الاول 1426هـ