العدد 94 - الأحد 08 ديسمبر 2002م الموافق 03 شوال 1423هـ

نجيب محفوظ بانتظار الاكتشاف الثالث

ماذا بقي منه؟

يبدو أنه من الصعوبة الحديث عن رواية عربية قبل الهرم المتين الذي أسسه ابن الجمّالية نجيب محفوظ 1912، فقد اجتهدت زمرة كبيرة من النقاد العرب في رصد المحاولات الأولى التي كانت المهاد لظهور رواية عربية، حتى أن بعض النقاد من أمثال المرحوم علي شلش كان قد رصد أكثر من 180 رواية حتى قبل ظهور «زينب» هيكل، إلا أن ما رصد يتقاطع جزئيا مع هذا الفن الإبداعي الحديث في الثقافة العربية، ويدلل على إعادة فحص هذا التراث وهو عادة ما يختزل في حديث المويلحي وبضعة أعمال أخرى على أن الرواية لم تتأسس بعد بشكلها وهيكلها وحدودها المعروفة أجناسيا الآن قبل نجيب محفوظ، الذي بدأ مشواره الإبداعي منذ ثلاثينات القرن الماضي.

كان الاكتشاف الأول مطلع الستينات - أي بعد عقدين تقريبا من العمل الدؤوب - من خلال رواية «اللص والكلاب» أو ما أسميه بظاهرة سعيد مهران /شكري سرحان، فحين جسدت الرواية سينمائيا، ونال الفيلم وقتها اعترافا واسعا، بدأت الالتفاتة التداولية لأعمال نجيب محفوظ السابقة على مستوى واسع، جماهيري ونقدي .والتي بدأها بسلسلة التاريخ الفرعوني، ثم شهدت أعماله تحولا صوب الواقعية التسجيلية مؤسسا لهذا الاتجاه ومبدعا فيه، وصولا إلى ترصيع هذه الواقعية بالرمز وبالأجواء النفسية الخاصة، مما عقد في شكل الخطاب ومضمونه معا، وكل ذلك توزع بالتساوي على المجتمع القاهري الذي ظل مخلصا له في مجمل تجربته.

والاكتشاف الثاني كان حين حصل محفوظ على جائزة نوبل للآداب العام 1988 م كأول عربي يحظى بهذا التكريم الإبداعي الرفيع عالميا، تقديرا لعمله وربما للثقافة العربية في تجليها الإبداعي. وقد أفضى هذا الاعتراف العالمي بقيمة ما كتب، إلى إعادة اكتشافه مرة أخرى عربيا وعالميا، لكن هذا الاكتشاف الثاني كان بعد أن قدّم روائعه كلها، وانتهز البعض هذه السانحة لمحاولة قتله جسديا، أو عبر التقليل من قيمة ما كتب على اعتبار أن حركة الزمن قد جعلت من إبداعه كلاسيكيا وتراثا ينبغي تجاوزه، أو تم تجاوزه فعلا، وبالتوازي مع هذين الاقتراحين اللذين استهدفا تصفيته، يمكن القول باطمئنان إن نجيب محفوظ ظاهرة لم تتكرر في عوالم الرواية العربية، وهي غير مرشحة للتكرار أبدا. فما الذي بقي منه؟ أعتقد أن أهم ما بقي وربما الأهم من العناوين الآتية: زقاق المدق/الثلاثية/أولاد حارتنا/الحرافيش / ثرثرة فوق النيل/ميرامار/الكرنك/الشحاذ/السمان والخريف/يوم قتل الزعيم وغيرها هو أنثروبولوجيا القاهرة، هذه الانثروبولوجيا كانت سببا رئيسا في جعل القاهرة مكان استقطاب إبداعي بل وحتى سياحي، وخلقت أعماله علاقة شائقة بين المكان والمتلقي من دون الحاجة إلى التعرف عليه فيزيائيا بالنسبة لمن هم في الخارج، كما أن كم الأنماط السلوكية، والطبيعة المكانية، كلها مجتمعة مادة دسمة لمعرفة التحولات الخطيرة والمفصلية التي شهدها المكان، في علاقته بالزمن والحدث، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وكذلك أخلاقيا. ويكفي أن نلمح إلى أن أعماله أسهمت إسهاما جليلا في تحول الواقع إلى خيال والعكس بالعكس، حتى أصبحت بعض الشخصيات مثل سي السيد وممدوح علوان وزعبلاوي والكثير الكثير، عناوين لنوعية محددة من العلاقات الإنسانية الخاصة، التي تقفز إلى الأذهان فورا حين نلتقي بمتشابهات لها. وقد قال الناقد المعروف صلاح فضل انه عشق بلا هوادة الكثير من الشخصيات النسائية التي أبدعها محفوظ!!

والآن يبقى أن ننتظر الاكتشاف الثالث الضروري لهذا المبدع. وسأستعير هنا - ختاما - جملة خالدة وردت في إحدى مسرحيات المرحوم سعدالله ونوس بتصرف وأقول إن نجيب محفوظ حكاية والحكاية لا تموت

العدد 94 - الأحد 08 ديسمبر 2002م الموافق 03 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً