العدد 936 - الثلثاء 29 مارس 2005م الموافق 18 صفر 1426هـ

تغيير قواعد التدخل... إدارة جديدة للدول!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

على رغم جاذبية نموذج التغيير الذي حدث الأسبوع الماضي في قرغيزيا، وهي احدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق المتناثرة بعد الحطام، اذ اجتاحت جموع الناس مقار الحكومة، وأجبرت رئيس البلاد على الفرار، واستولت المعارضة على الحكم، في واحدة من "ثورات الديمقراطية الملونة" التي تهندسها أميركا في العالم، بعدما نجحت في صربيا وجورجيا وأوكرانيا، وتستعد لإشعالها الآن في روسيا البيضاء على رغم ذلك فإن النموذج اللبناني يظل هو الأقرب والأشد جاذبية لنا ولكثيرين، بحكم المكان والمكانة والدور الذي يلعبه لبنان في المنطقة العربية، منذ الاستقلال في اربعينات القرن الماضي حتى الآن، وكانت "الحرية" هي القيمة الأبرز لهذا الدور، سواء في الثقافة والفكر والصحافة، أو في ممارسة عملية سياسية محكومة بقواعد وتوازنات، وخصوصا بين الطوائف الثماني عشرة المتعايشة في لبنان.

وممارسة الحرية في العملية السياسية ابتداء من الانتخابات البلدية والبرلمانية، حتى الانتخابات الرئاسية، تتعرض الآن ومنذ سنوات لهزات كثيرة أفقدتها بعض ألقها وبريقها بل وصدقيتها، سواء بسبب الصراعات الداخلية وخصوصا الحرب الأهلية الطاحنة، أو بسبب التدخلات الأجنبية، عبر الحدود أو من وراء البحار.

حتى جاءت جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري لتفجر البركان الذي يزمجر بحرارة منذ فترة، وكما هو معلوم نزلت قوى المعارضة الى الشارع باسم الاحتجاج على الاغتيال البشع، لكن الاسم الحقيقي هو اسقاط النظام الحاكم "حكومة ورئاسة وأجهزة أمنية" واخراج القوات السورية من الأراضي اللبنانية التي دخلتها قبل اكثر من 20 عاما لايقاف الحرب الأهلية بغطاء عربي.

ولأن المعارضة اختارت النموذج الاوكراني والجورجي للتظاهر في الشوارع والساحات بداية طريق يتصاعد الى أعلى الجبل، نزلت الأطراف الأخرى المؤيدة "الموالاة" للرد عليها بالأسلوب نفسه، واشتد عراك الديكة وصولا لتدبير الانفجارات العشوائية في مناطق مختلفة من لبنان تسخينا للموقف!

فما الجديد الآن...؟

حدثان أساسيان نراهما بداية تغييرات حاسمة في قواعد اللعبة، ليس فقط في لبنان، ولكن في دول الجوار أيضا.

الحدث الأول هو تشكيل لجنة تحقيق دولية من جانب الأمم المتحدة، للتحقيق في جريمة اغتيال الحريري وكشف أسرارها، تمهيدا لتقديم المتهمين فيها الى محاكمة دولية، وذلك في ضوء تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية أيضا، الذي قدمه رئيسها "فيتزغيرالد" الى السكرتير العام للأمم المتحدة قبل أيام.

أما الحدث الثاني، فهو ايفاد واشنطن نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، ديفيد ساترويلد مبعوثا خاصا ومقيما لبعض الوقت في بيروت، ليهندس المسرح كما تريد أميركا، وليشرف على "التنفيذ الكامل والدقيق" لقرار مجلس الأمن رقم ،1559 اي انه مبعوث أكبر من السفير وأهم من مدير عمليات المخابرات، ومقدمة الرمح في كل الأحوال لإجراء التغييرات.

وهو أمر لم يغب عن فطنة زعيم حزب الله "المستهدف الرئيسي" السيدحسن نصرالله حين قال علانية ان ساترفيلد جاء لكي يدير العملية السياسية اللبنانية بما فيها الانتخابات البرلمانية في مايو/ أيار المقبل.

فماذا نستنتج من هذين الحدثين إذا؟

كلاهما يشير صراحة وبأعلى درجة من الوضوح، الى انتهاك فظ للسيادة الوطنية لدولة مستقلة، والى تدخل مباشر وعلني في شئونها الداخلية، ما يعني استلاب قرارها السيادي المستقل... ولنا تفصيل.

في الحدث الأول وهو تشكيل لجنة تحقيق دولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، هناك سوابق دولية أقرتها الأمم المتحدة ومجلس أمنها، لكنها كانت تتعلق بجرائم حرب أو إبادة جماعية أو صراعات عرقية مسلحة، كما حدث في تحقيقات مذابح رواندا والصرب، وأخيرا دارفور وتطوراتها الساخنة الحالية، أما في الحال اللبنانية فإن اغتيال الحريري رأس المعارضة، تحول من جريمة ضد فرد الى جريمة ضد شعب بكامله كما وصف أحد زعماء المعارضة.

وفي يقيني ان أي معارض في أية دولة أخرى غير لبنان في هذه الظروف الشائكة يمكن ان يغتال، فلا تتحرك واشنطن ولا تغضب باريس ولا تحقق الأمم المتحدة في الأمر، ربما بحجة أن هذا شأن داخلي، ومسئولية تقع على كاهل حكومة بلاده وأجهزتها الأمنية، لكن استغلال جريمة اغتيال الحريري بشأن آخر...

وعلى رغم أنني أتمنى أن أعرف قبل أن أموت اسم المسئول عن جريمة اغتيال الحريري، الذي أعجبت كثيرا بمشروعاته التعليمية والخيرية، فانني أشك في ان لاغتياله علاقة وثيقة بما هو مطلوب من لبنان أولا، وبما هو مرسوم لتحجيم سورية ثانيا، ولضرب وتصفية "المقاومة الوطنية" وخصوصا حزب الله ثالثا... فهل يذكرنا الأمر بحادث الاغتيال الذي تسبب في اشتعال الحرب العالمية الأولى!

هنا يتداخل الحدث الثاني ونعني إشراف المبعوث الاميركي على إدارة العملية اللبنانية، فالرجل لم يأت في نزهة الى "عوكر"، إذ مقر سفارته، ولا للمقامرة في كازينو لبنان، ولكنه جاء بخطة عمل متكاملة لاعادة هندسة الوضع اللبناني، كخطوة أولى ثم الوضع السوري كخطوة ثانية، عن طريق فرض الإرادة الأميركية وبالوفاق مع التطلعات الفرنسية القديمة لاستعادة الدور... وفي الحالين فإن المطروح هو استعادة العصور الاستعمارية الكلاسيكية، بما فيها فرض الوصاية والحماية ايضا، بصرف النظر عن شعارات الاستقلال والسيادة.

في الحدثين معا، فإن الحركة الاستعمارية العائدة بقوة تنشط وفي يدها أسلحة مهمة وكثيرة فهي تعمل تحت غطاء دولي عنوانه قرار مجلس الأمن رقم ،1559 الخاص "بتحرير لبنان من الاحتلال السوري، ونزع أسلحة كل الميليشات في لبنان"، وهي تعمل في ظل احتقان سياسي حقيقي داخل الطوائف اللبنانية، يستقطب الجميع على محورين معروفين، محور المعارضة ومحور الموالاة، ولكل أهدافه وارتباطاته وامتداداته عبر الحدود، وهي تعمل أيضا في ظل وفاق أميركي فرنسي صريح، يحرص عليه الطرفان لتعويض خلافهما بشأن غزو العراق العام 2003 وما تلاه.

أما الأهم في ظل كل ذلك، فهو الحديث المعاد عن معايير القانون الدولي، وحق السيادة الوطنية، وشعارات الحرية والاستقلال، التي قام الميثاق العالمي لحقوق الانسان، وميثاق الأمم المتحدة على كفالتها لكل الشعوب والدول... وهو حديث يبدو أنه أصبح الآن بلا معنى في ظل مناخ الهيمنة الاستعمارية، التي تمارسها الامبراطورية الأميركية المنفردة، وتتبعها بقايا دول استعمارية كانت يوما امبراطورية ويتغنى بشعاراتها تحالف المتأمركين العرب أصحاب الخطوة الآن.

ولقد نجحت قوى الهيمنة في استصدار قرارات من الأمم المتحدة، تجيز التدخل في الشئون الداخلية للدول وانتهاك سيادتها الوطنية، بل هناك قانون التدخل الانساني، الذي يجيز للأمم المتحدة مباشرة او بتكليف بعض أعضائها التدخل العسكري ضد حكومات معينة، اذا رأت ان سياسات هذه الحكومات تقهر مواطنيها وتظلمهم... وهذا غطاء براق تماما مثل كلمة الحق التي يراد بها الباطل ذاته، وعلى الضعيف والمستضعف ان يخضع وينصاع والا خرق القانون الدولي، واستحق العقاب!

تبقى أمامنا بضع ملاحظات سريعة:

1- يتحدثون بصدق عن ضرورة امتثال سورية وانصياعها للقرار ،1559 وانسحابها الفوري والشامل من لبنان "بالمناسبة فإني أؤيد الانسحاب السوري الشامل وأعترض على أسلوبه"، لكن أحدا لم يسأل لماذا لم تنفذ "إسرائيل" أكثر من 30 قرارات دوليا بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة؟

2- توزع أميركا عطاياها على حلفائها بالحق والعدل، فقد أخذت بريطانيا معها في إدارة العراق، وأخذت فرنسا في إدارة لبنان - سورية، وأعطت "لقمة" لألمانيا في إدارة فلسطين، وقسمت أنصبة أخرى لدول أوروبية أخرى في إدارة السودان... لكنها ظلت وحدها تمسك زمام القيادة في إدارة هذه الأزمات، عفوا في إدارة هذه الدول لصالحها أولا، ثم تلقي بالفتات للأتباع والمحاسيب والمتعاونين المحليين والدوليين!

3- التدخل المباشر في الشأن اللبناني بهذا الشكل، يعطي الاشارة الواضحة، إلى ترتيبات الانتقال الى سورية بعد ترتيب الوضع اللبناني، ومن سورية الى غيرها في اطار تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير لإدارة شئون الكون، ولتطوير ودمقرطة العرب وتحديثهم!

4- في ظل أوضاعنا العربية المتخلفة والمهلهلة كان متوقعا ان تستغل أميركا و"إسرائيل" وأوروبا حال الغيبوبة لتتدخل وتفرض بل وتدير شئون دولنا بهذا الشكل دفاعا عن مصالح يعرفونها هم، ولكن تحت شعارات عصرية، مثل التدخل الانساني، وحماية حقوق المواطنين، والدفاع عن الحرية، وتحرير الشعوب من طغاتها، وهي بالمناسبة مرة ثانية كلمة حق يراد بها باطل، لكن تظل المسئولية عن كل ذلك تقع على عاتقنا نحن، على الذين حكموا بالظلم والاستبداد، وعلى الذين قبلوا الظلم وخضعوا للاستبداد.

5- أظن ان جميع الدول العربية أصبحت الآن تحت حدي السيف، حد التدخل والضغط الناعم، وحد التدخل والضغط الخشن، ولقد مارست أميركا ولاتزال تمارس التدخل الناعم في حالات كثيرة، لكن التدخل والضغط الخشن مستعد وجاهز للعمل الفوري.

فبعد العراق وفلسطين هناك لبنان وسورية والسودان في مرحلة سيولة أو فترة ريبة ما بين الانتقال من التدخل الناعم الى التدخل الخشن، الذي يعني ضمن ما يعني تفجير الأوضاع الداخلية استدعاء لبدء الاجتياح العسكري وفرض الوصاية والحماية بشكل مباشر، بعد ان تخلت السياسة الأميركية عن نظرية الحرب بالوكالة اي عن طريق وكلاء وعملاء وأخذت الأمر بيدها، لتخوض حروبا بالاصالة عن نفسها، مع التحية للقانون الدولي والشرعية الدولية!

خير الكلام

يقول الشاعر:

كل من في الوجود يطلب صيدا

غير أن الشباك مختلفات

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 936 - الثلثاء 29 مارس 2005م الموافق 18 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً