العدد 934 - الأحد 27 مارس 2005م الموافق 16 صفر 1426هـ

لبنان ضحية الأمن

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لبنان يمر في فترة حرجة وحتى الآن لا تعرف الجهة التي تقف وراء متفجرة المدينة الصناعية في منطقة سد البوشرية، ولا الجهة التي وضعت متفجرة الكسليك، ولا تلك التي ضربت منطقة تجارية في نيو جديدة.

إلى ذلك لا تعرف حتى الآن الجهة التي اغتالت رفيق الحريري ولا تلك التي حاولت اغتيال مروان حمادة. فهذه المتفجرات دمرت الثقة باستقرار لبنان وزعزعت أمنه وزرعت الشكوك والمزيد من التفرقة بين القوى السياسية الموالية والمعارضة. فالكل يتهم الكل. وكل فريق له أطروحة طويلة عريضة تنتهي في الأخير إلى تحميل الجهة الأخرى المسئولية. فهناك من يتهم اميركا و"إسرائيل" لتمرير مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، واتخاذ لبنان معبرا أو منطلقا لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة. وهناك من يتهم الأجهزة الأمنية السورية - اللبنانية بالوقوف وراء تلك الافعال الشنيعة لفرض الهيمنة، ومنع البلاد من التحول إلى بلد "ديمقراطي" يصوغ علاقاته الداخلية بعيدا عن توازنات القوى والمواقع الإقليمية وتجاذباتها.

كل أطروحة تملك الكثير من المعلومات وتقوم على سياق تحليلي متماسك فيه بعض الصحة ويحتمل بعض الخطأ. وبسبب تكافؤ المنطقين تولدت سياسات محلية وجدت لها أنصارها ومؤيديها في مختلف اطياف التركيبة اللبنانية ومناطقها.

المسألة إذا معقدة ومن شدة تعقيداتها تداخلت فيها الالوان والخيوط والخطوط إلى درجة ان اللبناني المسكين لم يعد يعرف "الحقيقة". والحقيقة كما يقال يصنعها المنتصر في النهاية. والمنتصر في هذه المعركة الضارية التي يخطط لها سيقوم في الشوط الأخير بالتحكم بخيوط اللعبة وتقديم تفسيره الخاص لكل ما حصل ويحصل.

وفي انتظار نهاية الشوط الأخير - وهو في المناسبة اقترب كثيرا - لمعرفة المنتصر في الجولة المتوقعة، لابد من إعادة التذكير بأن ما يجري في لبنان أكبر من مساحة البلد وحدوده السياسية المتعارف عليها.

ما يجري في لبنان شيء كبير وخطورته أنه يعيد ربط أزماته الداخلية بأزمات المنطقة وتداعياتها الإقليمية. فهناك مشروع ضخم أعلنت الإدارة الأميركية عنه مرارا، وسربت خطوطه العريضة وبعض تفصيلاته في تصريحات أو تقارير بعضها صحيح وبعضها الآخر للتضليل. إلا أن مجموع الأهداف لا يبشر بالخير ولبنان حلقة من تلك الحلقات.

هذا التوصيف لا يعني أبدا اعطاء ذريعة لتلك الحلقات الأمنية الضيقة التي لا تقرأ سياسة، وتفهم المخاطر بأنها مجرد لعبة بوليسية يمكن التعامل معها بخفة أو بالتشهير والطرد وأخيرا الإلغاء إذا اقتضى الأمر.

هذا العقل الأمني الصغير سهل كثيرا تمرير ذاك المشروع وأعطاه حيوية واحيانا شرعية دولية للتدخل في سياسات لبنان المحلية. فالعقل الأمني الصغير تعامل باستهتار مع المخاطر التي تهدد البلد، وتعاطى مع القوى السياسية المحلية بسلوك استعلائي ونزق سياسي أسهم في إخراج الكثير من اصدقاء سورية من التحالف إلى الخصومة.

العقل الأمني لا يقرأ سياسة. ولانه يعيش هاجس المخاوف الدائمة من المؤامرات ارتكب مجموعة اخطاء أضعفت الثقة وزعزعت الجبهة الداخلية في وقت كان لبنان بحاجة إلى مزيد من التوحيد ومزيد من القوة. هذا العقل لم يترك مساحة لتلك القوى المحسوبة في النهاية على معسكره ليستنجد بها في حال وقعت الواقعة وتزلزلت الأرض. ومن بديهيات انغلاق تفكير العقل الأمني أن يعتبر ان كل من يختلف معه في وجهة نظره أو يملك فكرة غير منسجمة مع تفكيره هو مشروع "جاسوس" و"عميل" و"رأس الافعى" و"اخطبوط صهيوني" يجب معاقبته.

هذا النوع من التفكير الأمني جلب الويلات للبنان منذ أغسطس/ آب الماضي إلى حاضرنا. فهو لم يترك فرصة للتفاهم مع أي فريق لا يتماثل معه فاختلف مع البطريرك الماروني "المعتدل في توجهاته" ومع الأطراف المعتدلة في تجمع "قرنة شهوان" وصولا إلى فرقاء الصف الواحد فطرد رفيق الحريري من الدائرة وصنفه في خانة الاعداء واستعدى وليد جنبلاط، واستبدل كل هؤلاء بمجموعات غوغائية "ديماغوجية" تورط الدول في مشكلاتها الصغيرة. وحين انحشر العقل الأمني في زاوية صعبة لم يتردد في جرجرة ورقة استراتيجية "حزب الله" وتوريطها في لعبة محلية لا تعرف مداخلها من مخارجها.

هذه العقلية الأمنية أوصلت لبنان إلى ما وصل اليه، وكشفت أوراقه وبات عرضة للتلاعب الدولي وتمرير مشروعات التدويل والتقويض.

لبنان يمر في فترة خطرة إلا أن مصيبته تكمن في عقل لا يقرأ إلا تلك الأفكار في رأسه، ولا يملك الجرأة على الاعتراف بفكرة يقولها غيره

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 934 - الأحد 27 مارس 2005م الموافق 16 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً