تصب واشنطن هذه الأيام جام غضبها علينا، فسبحان المنقذ. ..
ولا يكاد يوم يمر إلا ونتلقى موجات متتالية من الغضبات، التي تنذر وتحذر، وتتوعد بالعقاب القاسي، إن لم نرتدع وننصاع، الآن وفورا بشكل مطلق، لا يقبل جدلا أو تأويلا!
ولم تكن واشنطن لتفعل ذلك، وتتمادى في غضبها لولا أنها تلقى آذانا صاغية، بل وتجد أوصالا مرتعشة وقلوبا مرتجفة وعقولا واجفة، تقبل أوامرها ونواهيها فتنفذ بلا تردد وترضى بلا تململ!
وها نحن نعيش فترة عصيبة، يزداد فيها الضغط الأميركي المتصاعد على المنطقة، طلبا بعد طلب، وابتزازا بعد ابتزاز، وكلما أطعنا طلبوا المزيد المزيد، فالمهم لديهم ليس مجرد الاستجابة العاجلة، ولكن الانصياع التام، إذ إن الإدارة الأميركية الحالية بقيادة المحافظين الجدد، وتحت ولاية الرئيس بوش، بدأت فعليا الهجوم الكبير، تنفيذا لمشروع الشرق الأوسط الكبير.
وبعد أن جربت قبل عامين بالضبط، أسلوب الاكتساح العسكري، بغزو واحتلال العراق، وإسقاط نظامه وتدمير دولته، اكتشفت أنه أسلوب باهظ الكلفة صعب الاحتمال كثير الضحايا، فإن كان سقوط مئة ألف قتيل عراقي على الأقل منذ بدء الغزو الأميركي في مارس/ آذار ،2003 لا يهم كثيرا، فإن ما يهم ويؤثر فعلا هو سقوط آلاف القتلى من الجنود الأميركيين، وخسارة مئتي مليار دولار تم إنفاقها على الحرب في العراق حتى الآن، ومازالت المعارك الدامية تحتدم ومازالت المقاومة تتزايد، ومازالت الحكومات المفروضة فاقدة الشرعية، ومازالت حكاية الانتخابات الديمقراطية تحت حماية الدبابات الأميركية، محل سؤال وموضع رفض من قطاعات شعبية واسعة.
الآن، وبعد هذا الكابوس الثقيل لنظرية الحرب الاستباقية والضربات العسكرية الإجهاضية، يبدأ تنفيذ أسلوب الهجوم الآخر باسم فرض الإصلاح الديمقراطي على دول متخلفة، ونظم حكم مستبدة وحكومات فاسدة، يدرك الجميع أن مجرد التلويح الأميركي يزعجها، فما بالكم بالتهديد المباشر، إنه يقوضها بحكم ضعفها، وهي ضعيفة لأنها في انفصال عن شعوبها وفي خصومة معها، بسبب السيطرة الطاغية وانتهاك الحقوق والحريات لمواطنين ليسوا على استعداد للدفاع عنها ساعة المحنة، وها نحن نسمع من يطالب علنا بفرض الانتداب الأجنبي على بلاده، وبمن يحرض أميركا على وطنه، وبمن يتمنى عودة الاستعمار الأوروبي!
واشنطن تدرك ذلك وتستغله، فهي تعرف عن أحوالنا وأوضاعنا وأسرارنا أكثر ربما مما تعرفه حكوماتنا الرشيدة، بعد أن اخترقت الآلة الأميركية متعددة الأصابع، حياتنا الرسمية والشعبية، بإذن ومن دون إذن، فقد قبلنا منذ البداية المعونات المشروطة، وعلى من يقبل أن يوفي بالشروط.
قبل أيام وقفت كثيرا أمام لوحة فسيفسائية تفترس واقعنا، فإذا بألوان العلم والنفوذ الأميركي، تغلب على باقي ألوان اللوحة، ناطقة بالحقيقة الصادمة بكل قسوتها... وخذ عندك:
- السفير الأميركي في القاهرة المشهور بعنجهيته الفظة، يرعى حفلا بمقر قلعته الحصينة إذ تم توقيع اتفاق لمنح مليون دولار أميركي "كم هو ثمن بخس" لست جمعيات أهلية مصرية بهدف تعزيز الديمقراطية، وسط إعلان صاخب وإعلام مثير بهدف أن يعرف القاصي والداني، أن الأمر ليس عورة، وإن كانت عورة في الماضي فهي الآن مفخرة تستدعي مثل هذا الاحتفال والاحتفاء.
ترى كم من الجمعيات والمنظمات ومراكز البحوث وخبراء الدراسات، في القاهرة وغيرها من عواصم العرب، قبضوا من وراء ستار، بعلم أجهزة دولهم أو من وراء ظهرها... الاختراق وصل النخاع، وجنود الدعوة يقبضون من دون حساب أو خوف من عقاب، ولا ندري أين سلطة الدولة المتضخمة بل المستأسدة التي تملك من وسائل الرقابة العلنية والسرية ما نعجز عن حصره!
- قررت واشنطن إنشاء آلية جديدة لمراقبة حال الديمقراطية في 45 دولة في العالم، وللعلم فإن كل الدول العربية تدخل في القائمة، ولم تأت هذه الخطوة التي سبقتها خطوات مماثلة، مثل لجنة مراقبة الحريات الدينية، ولجنة مراقبة معاداة السامية، ولجنة مراقبة حقوق الإنسان، إلا في إطار منظومة تتكامل يوما بعد يوم، تهدف إلى تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الموسع بجانبيه الحربي والسلمي، واستجابة لمقولة الرئيس بوش وتعهده بنشر الديمقراطية ومحاربة الطغيان في العالم وعزل طغاته!
وقد انتهت هذه المهمة الرسولية تقريبا في أوروبا الشرقية، وها هو الدور يأتي الآن على البلاد العربية لا يستثني أحدا، مع بعض البقايا في إفريقيا وآسيا... إنما التركيز هنا على من فقد التركيز والتيقظ...
- قبل أيام أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرها السنوي عن حال حقوق الإنسان في دول العالم، وفي نحو ألف صفحة تناول التقرير أوضاع 196 دولة، لا تكاد واحدة منها تفلت من انتقاداته، اللهم إلا القليل، فالصين وروسيا وإيران في مقدمة المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان، وأوضاع أفغانستان والعراق! تتحسن، بفضل الانتخابات "الديمقراطية الأخيرة فيهما"، وثمة إشارات سريعة تنتقد استخدام "إسرائيل" للقوة المفرطة ضد الفلسطينيين، لكن لا إشارة عن الانتهاكات الأميركية "الفضيحة" في أبوغريب وباقي سجون العراق وغوانتنامو.
إلا أن الهجوم القاسي هو الذي مارسه كتبة التقرير على أوضاع حقوق الإنسان في البلاد العربية، وخص سورية ثم مصر والسعودية والسلطة الفلسطينية بالنصيب الأكبر، وتحديدا فيما يتعلق بالحريات العامة والحقوق السياسية والاعتقالات والتعذيب وانتهاك حرية الصحافة والرأي والتعبير!
وعلى رغم ما في هذه الانتقادات من صحة نعترف بها، فإن هدف النقد الأميركي، ليس تصحيح الأوضاع وتحسين الممارسات، بقدر ما هو توجيه الإدانة، ليس إلى نظم الحكم المسئولة عن الانتهاك وحدها، ولكن إلى الشعوب المقهورة المتخلفة إرهابية الثقافة متطرفة التربية... وتلك هي المشكلة في التقويم الأميركي عموما والذي نختلف معه!
فإذا أضفنا سجلنا السيئ في مجال حقوق الإنسان هنا، إلى التقارير الأميركية السابقة واللاحقة عن الحريات الدينية أولا، وعن معاداة السامية ثانيا، ثم عن التزام الإصلاح الديمقراطي ثالثا، لأدركنا نتيجتين، أولاهما أن أوضاعنا سيئة وغير ديمقراطية وغير إنسانية، تحتاج إلى إصلاح فوري وجذري، وثانيهما أننا في مواجهة هجوم أميركي شامل لفرض الإصلاح علينا طالما فشلنا في إجرائه بأنفسنا.
وسبق أن أشرنا في مقالات سابقة وبالتفصيلات الموثقة، كيف تستعد أميركا للهجوم الكبير هذا باسم الديمقراطية، وكيف توضع الخطط لإطلاق "ثورة الديمقراطية الزاهية الألوان" البرتقالية والحمراء والزرقاء، على النموذج الأوكراني والجورجي، وها نحن ندخل هذا العصر تحت هذا الهجوم، ببعض ما نراه يجري في الساحة اللبنانية منذ مقتل رفيق الحريري قبل نحو شهر... ثم تداعت الحوادث تتصاعد درجة بعد أخرى في ترتيب دقيق وتنظيم أدق، وصولا إلى الهدف الأبعد وهو رأس سورية وعنق المقاومة اللبنانية، تأمينا لظهر "إسرائيل".
في ظل الضغط الأميركي المتصاعد ابتزازا بعد الآخر، تحولت جريمة اغتيال الحريري، إلى نقطة تفجير للساحة السورية اللبنانية، وأصبح الشارع اللبناني ساحة صراع لاستعراض العضلات بين المظاهرات المعارضة لسورية، وتلك الموالية لها، وحلق النسر الأميركي على الجميع حاملا "إسرائيل" على جناحه الأيمن، وشابكا فرنسا على الأيسر، فإذا بسورية في قلب العاصفة تقف وحيدة...
جيش أميركي منفلت على حدودها الشرقية، وجيش صهيوني شرس على حدودها الغربية، وصراع توتر في خاصرتها اللبنانية، وحصار دولي باسم قرار مجلس الأمن رقم 1559 تصر أميركا وفرنسا على تنفيذه كاملا وفورا، وتهديد مبطن بإطلاق الوحش الإسرائيلي عليها إن لم ترتدع وهي الدولة "المارقة" المتهمة بمساعدة الإرهاب، وفق الاتهام الأميركي، ووضع دولي مذعور عبرت عنه الحليفة الكبرى روسيا من خلال نصيحتها لدمشق بضرورة الالتزام بالقرار الدولي، ثم تتالت النصائح العربية، وخصوصا من أكبر حليفين عربيين لها مصر والسعودية، تطالبها بالانسحاب من لبنان، إنقاذا للموقف العربي المتردي، بل إنقاذا لرأس سورية ذاتها!
وعلى عكس ما فعلته القيادة العراقية المنهارة برئاسة صدام حسين المعزول، قرأت القيادة السورية، الموقف كله فأعلنت استجابتها للضغوط اللبنانية والعربية والأوروبية والروسية، والأهم انصاعت للمطالب الفرانكوأميركية، وقد عبر عن ذلك الرئيس بشار الأسد بقوله للصحافة الأميركية، "إنني لست صدام حسين" إنني أدرك ضرورة التعاون مع القرارات الدولية والتعامل مع الضغوط الدولية.
وفي هذا الإطار الحصاري الملتهب جاء خطاب بشار الأسد يوم 6 مارس2005 معلنا قراره الاستراتيجي بالانسحاب العسكري "114 ألف جندي" من لبنان، ولم يكن هذا في رأينا أخطر ما قاله يومذاك، لكننا نعتقد أن أخطر ما قاله هو الاعتراف علانية بأن سورية ارتكبت أخطاء في لبنان، ونظن أن أهم هذه الأخطاء هو الضغوط الشديدة على القوى اللبنانية لتمديد ولاية الرئيس إميل لحود لثلاث سنوات أخرى، من دون سبب جوهري إلا ضمان "الموالاة"، ونضيف خطأ آخر هو طبيعة الممارسات الاستخباراتية السورية التي تسللت إلى الشرايين اللبنانية، ما ترك شعورا لدى اللبنانيين، بتحول مهمة الجيش السوري "الشقيق" إلى سلوك احتلالي لشعب تعود الحرية!
فإن كان ذلك أخطر ما قاله الأسد، فإن أخطر ما لم يقله في خطابه ذاك، هو ما يتعلق بإعادة صوغ الوضع السوري نفسه، في ظل كل هذه المتغيرات الداهمة من حوله، المحاصرة لدوره، والمقلصة لنفوذه والمضيقة الخناق عليه لينكفئ داخل أسوار دمشق، وليتخلى عن سياساته السابقة، وخصوصا تجاه قضايا فلسطين والمقاومة والقومية... إلخ.
وبقدر ما تحاول السياسة السورية اليوم تخفيف وتلطيف حدة الفصل بين توأمها اللبناني، والذي طالما استغلته ورقة للضغط على "إسرائيل" من أجل استعادة الجولان المحتل، بقدر ما تصر السياسة الأميركية، ومعها الأوروبية، وخصوصا الفرنسية على إجراء جراحة كبيرة لفصل التوأمين السوري واللبناني، الملتصقين من الرأس حتى الأقدام، وهو أمر ينعكس بالضرورة على سورية أساسا...
وهذه هي الثمرة الصغرى التي قطفها التحالف الأميركي الأوروبي الإسرائيلي، لكن تبقى الثمرة الكبرى التي يسعى إليها من الآن فصاعدا، ونعني أولا الانفراد بالمقاومة اللبنانية والفلسطينية في لبنان، وخصوصا حزب الله، المستهدف الرئيسي، الذي يشكل بفضل قوته وانضباطه وسلاحه، الهاجس الأهم أمام "إسرائيل" ونظرية أمنها، وخصوصا بعد أن استطاع كسر أنفها، وإجبارها على الانسحاب من جنوب لبنان في مايو/ أيار من العام ،2000 وهو أمر يشكل سابقة تاريخية مهمة.
ثم يبقى ثانيا، ونعني إجبار سورية "بعد حصارها" على الاندماج في مسارات الإصلاح الديمقراطي، وفق الوصفات الأميركية المطروحة، والتي يجري الإلحاح عليها في البلاد العربية المختلفة، فضلا عن الاندماج في عملية التسوية السياسية مع "إسرائيل"!
لذلك نعتقد أن الخيار الأهم أمام القيادة السورية الآن، ليس فقط إعادة صوغ العلاقات الوفاقية مع الشقيق اللبناني، بل أيضا إعادة صوغ العلاقات التصالحية داخل المجتمع السوري نفسه، لتبدأ إصلاحات ديمقراطية ومصالحة وطنية واسعة وعميقة، تستطيع مواجهة هذا الهجوم الأميركي الكبير، وتستبق بالتالي نظرية تصدير "الثورات الديمقراطية الملونة"، المعتصمة بالشارع والملتهبة بالشعارات، والهادفة إلى فرض التغيير الذي تريده... أو الذي يريدونه ويديرونه بـ "الريموت كونترول"!
خير الكلام
يقول أحمد شوقي:
ألوم معذبي فألوم نفسي
وأغضبها ويرضيها العذاب
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 924 - الخميس 17 مارس 2005م الموافق 06 صفر 1426هـ