لم يتوقع الشارع العراقي أن تؤول الأوضاع الى ما آلت اليه الآن بعد أن انتهت مرحلة الانتخابات التي جرت في العراق أخيرا. فالجانب الكردي الذي عبأ قواه الاجتماعية والسياسية في الداخل والخارج للحصول على النسبة العالية من أصوات المنتخبين الأكراد، ربما كان يدرك أهمية الحاجة الى مثل هذه النسبة العالية لخوض معركة سياسية مع ممثلي القوائم الفائزة لانتزاع المزيد من المكاسب القومية التي سبق ان طرحها في الكثير من المناسبات، ولكن بعضها لم يحظ باهتمام الحليف الأميركي أولا، وقوى المعارضة العربية السنية والشيعية ثانيا، والطرف التركماني الذي هو اضعف الأطراف في المعادلة السياسية العراقية ثالثا.
ويبدو ان الاشكالات التي لم تكن متوقعة، حينما دخلت قائمة الأئتلاف الوطني "الشيعية" الى المنافسة الانتخابية، هي حصول قائمة اياد علاوي "العراقية" على نحو 40 مقعدا وهذا قد احدث هزة في تقديرات الأئتلاف والتي بشرت بها وكالات استقصاء الرأي التي قالت ان قائمة علاوي قد تحصل على 8 - 12 مقعدا، بينما جاءت النتائج بأكثر من ذلك بكثير.
وعلى ضوء هذه النتائج التي تحققت اختل توازن قائمة "الائتلاف" التي كانت تطمح الى تأمين ثلثي المقاعد لتحقيق تفوق نسبي على القوائم الأخرى. ومن خلال ذلك استمد الاكراد وقائمة علاوي قوة كافية لتعطيل برنامج قائمة "الائتلاف" لأن قانون إدارة الدولة الذي وضعه الحاكم المدني السابق بول بريمر، ربما هو المسئول عن الأزمة السياسية الحالية في العراق، فهذا القانون كان صيغ بعناية فائقة لمنع حدوث اي اجماع مرتقب في الجمعية الوطنية، اذ افترض ان يحصل الطرف المعني بتشكيل الحكومة على ثلثي أصوات أعضاء الجمعية، وبلد مثل العراق متعدد الأعراق والاديان والانتماءات الاثنية الأخرى لا يمكنه بأي حال من الاحوال تحقيق الاجماع فيه الا من خلال التوافق الذي يفرض حاليا "المحاصصة" أو من خلال تعديل مادة "الثلثين" وجعلها 51 في المئة من أعضاء الجمعية على ان تجرى الانتخابات لا على اساس القوائم وانما على أساس الترشيح الشخصي.
اذا فإن الأزمة الحالية التي تعرقل تشكيل الحكومة الجديدة جاءت بسبب قانون إدارة الدولة الذي يستخدم حاليا من قبل الاطراف المتنازعة كل بحسب قراءته له. فالاكراد يصرون على الاعتراف بالفيدرالية وإعادة مدينة كركوك الغنية بالنفط الى كردستان والقائمة الشيعية لا تريد ان تعطي ما ليس بيدها، فالجمعية الوطنية لم تجتمع لحد الآن، والحكومة الشرعية لم تشكل ولا يمكن توقيع أية وثيقة يطالب بها الاكراد مسبقا لالزام الطرف الشيعي باقرار أربعة شروط هي: تعيين رئيس جمهورية كردي وأربع وزارات سيادية وإعادة كركوك الى كردستان وتخصيص 25 في المئة من موارد العراق لكردستان ثم اضافوا شرطين آخرين هما عدم دخول الجيش العراقي الى كردستان الا بموافقة البرلمان الكردي عند الحاجة والحاق قوات البشمركة بالجيش العراقي الجديد ولكن في مناطق وجودها الحالية في كردستان العراق.
وكانت قائمة "الائتلاف" تأخرت في التصدي لظروف ما بعد الانتخابات، فقد انشغلت بصراع الأربعة على تولي منصب رئيس الوزراء، وهم كل من أحمد الجلبي، وعادل عبدالمهدي وابراهيم الجعفري وحسين الشهرستاني، وقد استغرق هذا التنافس وقتا كافيا، استغله اياد علاوي للسفر الى كردستان والتفاهم مع الزعيمين الكرديين مسعود البارزاني وجلال الطالباني وصدر تصريح لكل منهم يشير الى اتفاق قد تم بين هذه الاطراف، ولكن قائمة الائتلاف انتبهت الى هذا التحول، فاتفقت بعد أخذ وشد على اسم ابراهيم الجعفري، الذي سافر الى كردستان لاقناع الاكراد بالتحالف ولكنهم اصروا على موقفهم وتبعه احمد الجلبي الذي تربطه علاقات قديمة مع القادة الاكراد وهو الآخر لم يوفق في ثني الاكراد من رفع سقف مطالبهم وخصوصا فيما يتعلق بكركوك وعدد الوزارات السيادية.
ومنذ ذلك الحين والى الآن تجرى مباحثات خلف الكواليس وما يترشح منها لا يمكن ان يوفر قدرا كافيا من المعلومات عما يدور هناك فمرة يصرح أحد المسئولين في الكتلة الكردية بأن الاتفاق جرى بين القائمتين الشيعية والكردية على تشكيل الحكومة وقضية كركوك واجتماع الجمعية الوطنية، ومرة أخرى يكذب مسئول آخر من الكتلة نفسها هذا التصريح وهكذا الأمر بالنسبة الى قائمة "الائتلاف" فالتصريحات متضاربة ولا تعطي أية نتائج ملموسة وحقيقية وينسحب الأمر على اياد علاوي ايضا، اذ صرح أحد أفراد قائمته بأنه سوف لن يشارك في أية حكومة قادمة وهو اما ان يشارك بمركز رئيس الوزراء أو ينتقل الى المعارضة ثم يظهر علينا شخص آخر ينفي هذا الأمر.
ان لعبة الكواليس التي أجادها رئيس الوزراء السابق نوري السعيد منذ الخمسينات وحتى الاطاحة بنظامه في ثورة 14 يوليو/ تموز 1958 عادت تطل برأسها من جديد، فالعراقيون ربما يختلفون عن غيرهم فيما يتعلق بلعبة الكواليس، لانهم في اشد الحساسية من هذا المنهج في السياسة ويعتبرونه تراثا مقيتا جاء به البريطانيون بعد احتلال العراق مطلع القرن الماضي.
وهم يعتقدون أن المحتل الاميركي حاليا، استعان بالخبرة البريطانية القديمة، وها هو الآن يدفع باتجاه اخفاء ما يجري على العراقيين حالما يستكمل الصورة التي يريدها، هذا الشعور يلف الشارع العراقي حاليا، وليس مستعدا لأن يجيء يجر مثل هذا الموقف اذا ما بقي يدور في حلقته المفرغة الراهنة الى اندلاع المزيد من المشكلات وقد تصل الى حد انقلاب الوضع الحالي باتجاهات خطيرة للغاية، وعسى ان تكون القوى المعنية بالامر تدرك خطورة الموقف الذي لو انفجر لن يوفر لاي طرف من الأطراف ثمة مكسب من المكاسب، فالوضع السياسي متأزم للغاية، بعد ان امل العراقيون خيرا في الانتخابات، التي فقدت بعد ان آلت النتائج الى ما آلت اليه اليوم، والحكمة تقتضي الاسراع بحل المشكلات، والحرص على مستقبل البلاد
العدد 923 - الأربعاء 16 مارس 2005م الموافق 05 صفر 1426هـ