تقع الكتابة في الشأن الديني في المنطقة المحرمة، التي يخشى الكثير من الكتاب الولوج إليها، وأعتقد أن لهذه الخشية ما يبررها وهي تعود بشكل أساسي إلى ما يمكن تسميته الخوف من الوقوع في المحظور وما لا يحمد عقباه، ذلك أن المؤسسة الدينية تستغل في بعض الأحيان من قبل البعض كعصاة فرعون فتوزع الناس بين مؤمن وكافر، ومسلم وملحد، وهو أمر أودى بكثير من الناس إلى المبالغة في الحذر والاحتراز، وساهم في خلق بؤر للتوتر والتصدع الاجتماعي في أوساط عدة، بل ساعد في تردد وتراجع الكثير من الكفاءات عن التصدي للعمل الاجتماعي والتطوعي.
لقد آن الأوان للمباشرة في حملة تقييم واسعة للأساليب والطرق التي تتبع من قبل بعض المشتغلين بالشأن الديني، والذين يلجأون إلى القول بأن مقياس الإيمان هو مجرد القرب أو الابتعاد عن مظلة العالم الفلاني أو الفقيه العلاني، ذلك أن تعدد المذاهب الإسلامية، ومن ثم تعدد الاجتهادات فيه من السعة ما يؤكد أممية الإسلام، وقدرته على استيعاب مختلف المشارب والمنابت البشرية بشكل يساهم على الدوام في نشر مبادئ الدين الإسلامي العظيم التي جاء بها نبي الرحمة "ص" القائل: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وهل يمكن لمكارم الأخلاق أن تكتمل من دون التواصل والقبول بالتعددية والاختلاف في الآراء ووجهات النظر؟
لكن ما يحدث في البحرين من معارك كلامية واجتماعية وفقهية بين نشطاء ورواد المؤسسات الدينية الأهلية من مختلف المذاهب والمشارب، والسجال الدائر بين الآراء والأفكار الذي يصل في بعض الأحيان إلى خلاف بين الحوزات والجمعيات الدينية في الأدوار وصراع بين المكاتب الخاصة بالعلماء ورجال الدين يصل حد التخوين والتشكيك في الصدقية والمرجعية الفقهية. وهو خلاف من النوع الضار الذي يوسع الهوة ويباعد بين القلوب ويزيد من التصدع بدل أن يقارب بين القلوب ويقارب بين الدروب. وأغرب ما في الأمر أن كثيرين يصورون ما يحدث بأنه حاسم وضروري، حتى ليخيل للمتتبع أن كل قضايا الكون متوقفة على حسم الخلاف الديني وإعلان المغلوب والغالب، بينما الرسول "ص" يقول: "اختلاف أمتي رحمة".
ومن الحقائق المفرحة والمحزنة في آن، أن عدد طلاب العلم والعلماء الأفاضل في مملكة البحرين قد بلغ حدا كبيرا، لدرجة أن كثيرا منهم بات لا يعرف الآخر إلا بالاسم، على رغم صغر مساحة البحرين، وكثرة المناسبات الاجتماعية والدينية فيها، والتي يكون رجال الدين وطلاب العلم نجومها وسادتها في معظم الأحيان، لكن روح التجافي والاعتداد بالنفس تجعل التنافر هو السمة الغالبة في العلاقات بينهم وربما بين مريديهم والمقتنعين برؤاهم.
كما أن الملاحظ أن كل حي وكل قرية ومدينة فيها من المساجد ودور العبادة والمؤسسات والجمعيات الدينية أو شبه الدينية ما يكفي الحاجة إذا لم يكن أكثر منها، لكن الغريب أن من يرتاد بعض هذه الأماكن قد لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، وعلى رغم ذلك تجدها تنتشر وتزداد، وكأن التقرب إلى الله لا يكون إلا عبر هذا الطريق الوحيد. وهنا يجب ملاحظة أن ما يوجد من المؤسسات الدينية حاليا في المناطق القديمة المأهولة هو بحاجة فعلية، ليس إلى إعادة إعمار فحسب، بل إلى إعادة صوغ أهدافه وطريقة إدارته وتوجيهه بشكل يتماشى مع العصر، إلا أن الانشقاقات والتشظيات في هذه المؤسسات مستمرة ولن تتوقف أبدا.
إننا بحاجة فعلية وماسة لأن يتصدى بعض رجال الدين وأصحاب الفضيلة العلماء لتقديم نماذج مختلفة من أعمال التقرب إلى الله عبر الدعوة إلى تشييد بعض المؤسسات الخدماتية القادرة على تحسين المستويات المعيشية والحياتية للمواطن، والأسئلة التي تلح على البال بشكل كبير: أليس تشييد المستشفيات والمراكز الصحية تقربا إلى الله؟ ألا يدخل بناء المراكز الثقافية والاجتماعية التي تحمي الشباب من الضياع والانحراف... في المشروعات التي يتقرب بها إلى الله؟ وماذا عن بناء ملاجئ الأيتام ودور المسنين؟ ماذا عن توفير معاهد التدريب الفني والمهني وبعض المشروعات الصناعية والحرفية للتخفيف من وطأة البطالة؟ ماذا عن توفير بعض المدارس ورياض الأطفال؟ ماذا عن بناء بعض الشقق والمساكن الشعبية للفقراء والمعوزين؟ هل يمكن أن يتنافس العلماء ورجال الدين في هذه القضايا التي تمس جوهر الحياة والمعيشة اليومية، وأن يدعوا القريبين منهم بل ويوجهونهم للمبادرة إلى هذه الأعمال التي يحتاجها المجتمع بشدة؟
لقد دلفنا إلى الألفية الثالثة لكن عقول غالبيتنا لاتزال تعيش في بداية القرن الماضي، فكل شيء عندنا تقليدي، يصعب علينا المناداة بالتطوير والتحديث، وإذا حدث وتوفرت فرصة مؤاتية، تجدنا نسيء استخدامها ونخطئ في توظيفها وخصوصا إذا تصدى لهذه المطالب من هو غير قادر على تحمل المسئولية، من أصحاب الصوت المرتفع جدا والفعل المنخفض جدا، لأن هذا النوع من المزايدين "لا يرحم ولا يترك الناس لرحمة الله". ثم ان معظم هذا الصنف من البشر يريدون أن يفصلوا المؤسسات الدينية والاجتماعية على مقاساتهم في قوالب جاهزة قد لا تتسع حتى لمن يعمل في هذه المؤسسات منذ سنوات طويلة.
أعتقد بأننا بحاجة إلى مصارحة من نوع آخر، من النوع الذي يقول لأصحاب النهج القديم: شكرا لكم فلقد قمتم بدوركم كاملا واجتهدتم في تحمل المسئوليات حسب إمكاناتكم وقدراتكم وخبراتكم، لكننا نريد أن نتعاون معكم في تحمل المسئولية، وأن نعمل سويا على إدخال ما يمكن من تطوير وتحديث حتى تستطيع هذه المؤسسات أن تتماشى مع العصر الجديد، عصر التكنولوجيا والفضائيات والإنترنت والأشرطة الممغنطة، هذا العصر الذي ازدادت فيه وتيرة الاحتياجات الضرورية للإنسان ولم يعد كافيا أن يأكل ويلبس فقط، لأن الإنسان لا يعيش لكي يأكل ويلبس، وإنما هو يأكل ليعيش ويعمر هذه الأرض التي خلقه الله بها ليعمل ويكد ويتعلم ويتنعم، مصداقا لقوله تعالى: "وأما بنعمة ربك فحدث" "الضحى: 11".
وفي حال اتبعنا هذا الأسلوب، فإن أصحاب النمط التقليدي في إدارة المؤسسات الدينية لن يجدوا حرجا في التسليم بأهمية ما نطرح، وسيشعرون أن جيلا جديدا يرغب في مشاركتهم في تحمل المسئولية، من دون الإساءة إلى جهودهم واجتهاداتهم وتاريخ خدمتهم الطويل في مجال العمل الاجتماعي والديني والخيري، وبالمقابل فإن هؤلاء سيتحولون إلى مدافعين شرسين ذودا عن معاقلهم إن نحن عمدنا إلى استفزازهم والتنكر لمجهوداتهم وتضحياتهم، وسعينا إلى استبعادهم عن مواقعهم وتجريدهم من صلاحياتهم بشكل قسري، أو نحن بادرنا إلى كيل التهم وأمطرناهم بوابل من الانتقادات والتجريح.
ومن المهم الإشارة هنا إلى الدور الكبير الذي يعول على رجال الدين وأصحاب الفضيلة العلماء المتفتحين والمنفتحين المعتادين على قبول الرأي الآخر، فهم مطالبون قبل غيرهم أن يتصدوا لقيادة عملية التغيير بشكل هادئ ورزين، معتمدين على توظيف المناسبات التي يحضرونها والعظات والخطب التي يقدمونها لمريديهم ومستمعيهم، وخصوصا في المواسم الدينية المركزة كالحج والعمرة ورمضان الكريم ومحرم الحرام وغيرها من مناسبات دورية وطارئة.
كما أن من المهم الإشارة إلى أن رجال الدين والعلماء مطالبون بتقديم النموذج، حتى يقتدي الآخرون بهم، فلو أن كل رجل دين مخول بتسلم الحقوق في البحرين قام منفردا أو عبر الاشتراك مع آخرين بتأسيس مؤسسة رسمية علنية تقوم بتوظيف الأموال والحقوق التي تصل إليه في المشروعات التي تفيد الفقراء والمساكين والمحتاجين الذين تنطبق عليهم الشروط الشرعية، لكان ذلك نعم المثال والنموذج، ولساهم في تعزيز مكانة العلماء ورجال الدين قاطبة ومكن لهم من تقديم نصائح وتوجيهات أكثر تأثيرا وصدقية.
بل إن الثقة ستزداد بين المانحين والملتزمين بإخراج الصدقات والزكوات والأخماس ومقدمي التبرعات وبين هذه المؤسسات العلنية التي يمكن التدقيق عليها ومعرفة الجهات التي تنفق عليها والمشروعات التي تديرها والمعونات التي تقدمها للفقراء والمساكين والمحتاجين.
أجل ماذا يضير لو أن المشرفين على هذه الأعمال قاموا بتقديم كشف حساب سنوي، يفصحون فيه عن أوجه صرف الأموال، أو أن يؤسسوا مرافق حديثة، تدير هذه الأموال، عندها سيكون ممكنا لهم أن يطالبوا الآخرين بأن يحذو حذوهم، وأن يقوم المشرفون على المؤسسات الدينية بتقديم كشوف حسابات سنوية علنية، يبينون فيها الإيرادات والأموال التي بين أيديهم وكيف قاموا بصرفها أو استثمارها وتوظيفها.
ومن دون شك فإن ما ينطبق على المؤسسات والجمعيات الدينية سينطبق على إدارات الأوقاف، وسوف لن يتمكن أحد كائن من كان أن يسرقها أو يسيء التصرف في أموالها وممتلكاتها، وستتمكن هذه المؤسسات وعلى رأسها الأوقاف من لعب دور كبير في تقديم العون للمجتمع على أكثر من صعيد، وخصوصا أن العلماء ورجال الدين يعرفون كيف يوجهون الأموال التي بين أيديهم توجيها شرعيا لا شبهة فيه، ومن ثم يحافظون على المال العام، وينفذون شرع الله.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى أن تتحول المؤسسة الدينية التقليدية إلى مراكز إسلامية ثقافية واجتماعية حديثة ومتكاملة، قادرة على توصيل رسالة الدين وأداء المهمة على أكمل وجه، عندها لن يستطيع أحد أن يوجه سهامه الطائشة ناحيتها، أو أن يدعي بأنها تساهم في تعميق الشرخ الطائفي والانتماء المذهبي مقابل الانتماء للوطن وللإسلام العظيم وللبحرين العزيزة بأهلها، ذلك أن الجميع سيكون مشغولا بالبناء. وبالعمل والبناء نستطيع أن نبدع أكثر ونكتشف آفاقا أكثر رحابة وسعة وتنوعا.
ويبقى السؤال قائما من يشرع في التحضير للمستقبل أولا، من يبادر إلى الاستجابة لإحساس كثير من الناس بأهمية تقديم البدائل وتعزيز الشفافية ليس في المؤسسات الدينية فحسب، بل وفي كل المؤسسات الاجتماعية المصنفة ضمن مؤسسات المجتمع المدني، سواء كانت هذه المؤسسات مهنية، شبابية، نسائية، ثقافية، حقوقية أو سياسية، ذلك أن المناداة بمحاربة الفساد المالي والإداري الذي عانت منه بلادنا سنوات طويلة، يجب أن تبدأ من الجانب الأهلي قبل الجانب الرسمي، مع عدم التوقف عن المطالبة بتطهير الأخير من المفسدين والمرتشين والضالعين في الفساد، وأصحاب الملفات السوداء، وصدق من قال "لا تنه عن فعل وتأتي مثله... عار عليك إذا فعلت عظيم"
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 923 - الأربعاء 16 مارس 2005م الموافق 05 صفر 1426هـ