يعتبر التخطيط من أهم لوازم الحياة لدى الإنسان لكونه موجودا في كل أنواع الأنشطة التي يقوم بها. وهو العملية الرئيسية التي تجعله يحدد مسبقا ما ينبغي أن تكون عليه أعماله في المستقبل. والتخطيط يمر بعدة مراحل، أهمها تحديد ووضع الأهداف والسياسات المطلوب الوصول إليها، وضع الاستراتيجيات للوصول إلى هذه الأهداف عن طريق تصميم البرامج وتفصيل الخطوات والإجراءات والقواعد اللازمة ودراسة الوسائل البديلة وتحديد أنسبها لتحقيق هذه الأهداف في ضوء الموارد البشرية والمادية المتاحة في إطار زمني محدد. أي أن التخطيط يجب أن يــبنى على أساس مجموعة من الحقائق التي يتم تجميعها وتحليلها ولا يقوم على أساس الخيال والرغبات.
هذه المقدمة عن التخطيط هي بداية لموضوع بالغ الأهمية، ألا وهو موضوع الصحة المهنية. فمع استقرار الوضع السياسي في مملكة البحرين الذي أرسى دعائمه جلالة الملك بخطواته الحكيمة والجريئة، شهد الاقتصاد البحريني نموا ملحوظا في جميع القطاعات المختلفة وخصوصا القطاع الصناعي، رافقه في ذلك ازدياد مطرد في الاستثمارات المحلية والخارجية، وبالتالي زيادة في عدد العمالة المنتمية لهذا القطاع الحيوي في المجتمع. هذا النمو، كان من المفترض أن يصاحبه تطور في التشريعات والقوانين والطرق للحفاظ على صحة هذه الفئة وعدم تعرضها لحوادث العمل كهدف إنساني بالدرجة الأولى، وهدف اقتصادي بالدرجة الثانية، إذ إن العامل البشري هو المعيار الحاكم والفاصل في تدعيم المؤسسات واستقرار الانتاج في القطاعات الاقتصادية المختلفة وبالتالي يضمن استمرارية هذا النمو الاقتصادي. هذه التشريعات والقوانين هي من مهمات عدة جهات مرتبطة بالظروف المحيطة بحياة العامل، منها وزارة العمل، وزارة العدل، وزارة الصحة ، اتحاد نقابات العمال وغرفة تجارة وصناعة البحرين.
من هنا يبرز الدور الذي يجب أن تلعبه وزارة الصحة ممثلة بوحدة الصحة المهنية، في تحقيق الهدف من الصحة المهنية، الذي كما جاء في تعريف منظمة الصحة العالمية هو "الحفاظ على أعلى درجة من الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية للعمال في جميع الأعمال التي يقومون بها، ووقايتهم من الأمراض الناتجة عن ظروف العمل، ووضع العامل في بيئة عمل تتناسب وحالته الجسدية والنفسية، أي باختصار: أقلمة العمل للعامل وتأقلم العامل للعمل". وتحقيق هذه الأهداف يأتي من خلال القيام بسلسلة من الفحوصات الطبية والمهنية الوقائية والمتابعة المستمرة لها بهدف الحفاظ على صحة العامل النفسية والجسدية.
من هذه الفحوصات الوقائية ما يأتي:
أ- الفحص قبل العمل لضمان أهلية الشخص في القيام بعمل ما، كما وخلوه من الأمراض المعدية التي تهدد حياته وحياة باقي الشغيلة.
ب- الفحوصات الدورية للتأكد من أن هذا العامل مازال يتمتع بصحة جيدة وخلوه من عائق ناتج عن ظروف العمل.
ت- وضع قيود على أصحاب العمل في الالتزام بمبادئ الصحة المهنية وتفتيش مواقع العمل للتأكد من اتباعها اللوائح والقوانين.
ث- القيام بالإحصاءات الخاصة بالأمراض والوفيات الناتجة عن ظروف العمل، ما يمكننا مستقبلا تحديد حجم المشكلات وبالتالي وضع الحلول المناسبة.
المعوقات التي تعترض عمل الصحة المهنية
إلا أنه وللأسف، هناك عدة عوامل تمر بها الصحة المهنية في مملكتنا الحبيبة تعطل من لعب هذا الدور وعدم إمكان تحقيقه أهمها:
.1 الحجم الصغير لوحدة الصحة المهنية من حيث قلة الإمكانات البشرية المتوافرة "طبيبين وممرضين فقط" وأيضا قلة عدد الأطباء المختصين بهذا المجال بوزارة الصحة "طبيبان يعملان تحت إدارة المراكز الصحية!"، ما يؤدي إلى قلة الرقابة على المصانع والمؤسسات، وأن يقتصر دور الصحة المهنية على الجانب الفسيولوجي للعمال وأن يغفل الجانب النفسي.
.2 التداخل غير الطبيعي بين بعض أقسام الصحة المهنية والرعاية الأولية. فعلى سبيل المثال يقوم مركز الرازي الصحي الذي يعمل أساسا كمركز للرعاية الأولية للعمال بعمل الفحوصات قبل العمل الذي يخص بالأساس الصحة المهنية.
.3 طبيعة العمل في مركز الرازي تؤدي أن يقتصر دور الطبيب على الفحص فيما إذا كان هذا العامل مناسبا للعمل أم لا أو البحث عن سبب تغيب العامل نتيجة لهذا المرض أم ذاك. لذلك لا يمكن اعتبار الرعاية الصحية الأولية المقدمة للعمال في مركز الرازي الصحي صحة مهنية. فعلى رغم التقاء التخصصين في بعض الأهداف العامة لصحة العامل، إلا أن الأهداف الرئيسية للتخصصين مختلفة جدا.
.4 لا يختلف اثنان في أن الصحة المهنية هي بالدرجة الأساسية رعاية صحية للعامل إلا أنه لا يمكن اعتبار كل من يقدم الرعاية الأولية للعمال هو مختص في الصحة المهنية.
.5 التداخل بين مهمات اللجان الطبية والصحة المهنية. فتقييم نسبة العجز المهني وتأهيل المرضى هي من اختصاص الطب المهني بالتعاون مع بقية التخصصات الطبية.
سوء التخطيط
يكمن سوء التخطيط بالنسبة إلى الصحة المهنية في البحرين في عدة نقاط. النقطة الأولى هي في إصرار وزارة الصحة على خلط الصحة المهنية بالرعاية الأولية وعدم جدية التفكير في إنشاء إدارة خاصة بالصحة المهنية. فالعلاقة بين التخصصين هي ما يتم بين أي تخصص وآخر في المجال الطبي. وان حدث وضم قسرا أو خطأ في الماضي بعض أجزاء من تخصص الصحة المهنية إلى الرعاية الأولية، فهذا لا يعني صحة هذا الإجراء، والخطأ الأكبر هو في الاستمرار والإصرار عليه. وتأكيدا لذلك تأتي فكرة توسعة مركز الرازي الصحي وضمه لعيادة ألبا مع إبقاء الوضع على ما هو عليه فيما يخص الفحص الدوري قبل العمل بالنسبة إلى الوافدين وتحويل المواطنين للمراكز الصحية.
لذلك يجب القول إن تخصص الصحة المهنية واضح ومحدد ولا يحتمل التأويلات. فالصحة المهنية هي الصحة المهنية والرعاية الأولية هي الرعاية الأولية وفي كل أرجاء العالم على الأقل المتطورة، هناك إدارة خاصة ومتكاملة للصحة المهنية تضم في صفوفها كوادر متخصصة في هذا المجال، وليس كما يحدث في البحرين، فهل نحتذي بهم؟
النقطة الثانية هي تأهيل الكوادر المحلية والاستفادة من الموجودة حاليا. فالمتخصصون في الصحة المهنية بوزارة الصحة حاليا اثنان يعملان في مركز الرازي الصحي. الأول هو رئيس مجلس الإدارة في المركز ويقوم بعمل الفحص الدوري قبل العمل، وأما الثاني فلا علاقة للعمل الذي يقوم به من قريب أو بعيد بالتخصص الذي يحمله! وهناك طبيب ثالث مبتعث للدراسة في هذا المجال ينتظر رجوعه عن قريب. السؤال لماذا لا يعمل هذا الطبيب المتخصص في المكان الذي ابتعثته الوزارة من أجله؟ هل صحيح لعدم وجود وظيفة شاغرة لهذا التخصص؟ أين دور إدارة التخطيط في كل ذلك؟ هل هناك عدم تنسيق بين إدارتي التدريب والتخطيط عند ابتعاث هذا الطبيب لمرحلة ما بعد التدريب؟ على رغم وجود الإدارتين تحت إدارة واحدة هي إدارة التدريب والتخطيط! وما هو المغزى الحقيقي لعملية الابتعاث؟ هل هو بهدف تطوير الخدمات في الوزارة؟ هل هو تدارك لأهمية الصحة المهنية في المملكة والنقص في عدد الأطباء المختصين في هذا الجانب؟ أن كان كذلك، ما الجدوى من عملية ابتعاث الأطباء للتخصص من دون وجود شاغر لهم عند العودة "الرغبة والواقع"؟ ألا يعتبر ذلك هدرا للمال العام؟ هل الابتعاث هو بهدف الدعاية لإدارة التدريب عن عدد المبتعثين من قبلها إلى الخارج أو الداخل؟
إذا كان تفسير الابتعاث على أساس تطوير الصحة المهنية في الرعاية الأولية فهذا يرجعنا للنقطة الأولى التي أشرنا إلى خطأها. وإذا كانت الحجة هي قصر الفترة منذ رجوع هذا الطبيب المختص لأخذ التدابير اللازمة، فيوم واحد يكفي لقتل طموح أي شخص جاء متحمسا للعمل لخدمة وطنه، فما بالك بالسبعة شهور؟ ثم ألم تكن فترة السنتين أو أكثر منذ ابتعاث هذا الطبيب للتخصص إلى حين رجوعه كافية لأخذ كل التدابير اللازمة؟ إلا إذا كانت هناك مراهنة على رسوبه فهذا شيء آخر!
هنا سؤال آخر مفاده، ما الوضع الجديد في العمل بعد نيل الشهادة؟ هل هو العمل كما كان سابقا؟ إذا لما كل هذه المصروفات على مدى السنة والنصف في الدراسة؟ وإن كان هناك تغير، فمتى سيتم ذلك؟ هل هناك اعتبار لهذه الشهادة في الترقية؟ ولكن ألا تعني شهادة الماجستير شيئا بالنسبة إلى لجنة الترقيات وديوان الخدمة المدنية؟
ومن مفارقات القدر، أن هذا الطبيب في الوقت الذي نال شهادة الماجستير نتيجة لدراسة رائدة في مجال الصحة المهنية تسجل باسم مملكة البحرين، ويتم تكريمه من قبل سمو رئيس الوزراء في عيد العلم على هذا الانجاز الشخصي الذي هو بالتالي انجاز للمملكة، بينما يتم تهميشه في وزارة الصحة. وفي هذا السياق يستوقفني مقال للكاتب السيدضياء الموسوي في عموده اليومي نبض المجتمع في صحيفة "الوسط" بتاريخ 3 أكتوبر/ تشرين الأول ،2004 العدد 758 والمعنون "استشاريون في المهجر"، الذي أشار فيه إلى ماهية الأسباب التي دفعت الأطباء البحرينيين للهجرة إلى الخارج، ولماذا لا يتم استقطاب من يرغب منهم في الرجوع إلى البحرين وإعطائهم الامتيازات نفسها التي تعطى لهم في الخارج وتتناسب مع عطائهم من ناحية الاستقرار الوظيفي والمالي، لكي يخدموا وطنهم؟ وهل نحن بحاجة لجلب أجانب وأطباؤنا منثورون في الخارج والغربة؟ وهناك أيضا مقال للكاتبة مريم أحمد في عمود على الطريق في صحيفة "أخبار الخليج" بتاريخ 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004 بعنوان "عاجل جدا" والخاص بنقص الأطباء في وحدة العناية القصوى بمركز السلمانية الطبي، والذي ذكرت فيها مجددا عن هجرة الأطباء البحرينيين إلى الخارج مخاطبة صناع القرار وأصحابه وإلى وزيرة الصحة باتخاذ التدابير اللازمة.
وأتفق كليا مع ما جاء في المقالين آنفي الذكر إلا أنه لدي إضافة بسيطة هي هجرة الأطباء البحرينيين إلى الداخل. فعلى رغم صحة مصطلح الهجرة إلى الخارج لغويا، إلا أنه من الناحية العملية ليس شرطا أن تكون هجرة الأطباء أو العقول إلى الخارج. فالواسطة والمحسوبية والاحباطات، تهمش الكفاءات الحقيقية وتجعلها بالتالي كالمهاجر أو المغترب في وطنه. وإذا كان تبرير وزارة الصحة بأن الأطباء الذي أتى ذكرهم في المقالين درسوا وتدربوا على نفقتهم الخاصة وبالتالي لا توجد خطة لاستيعابهم، فما حسبكم بالذين تبعثهم الوزارة ليتدربوا على حسابها من دون وجود لهذه الخطة؟ فالمشكلة في بعض الأحيان لا تكمن فقط في سوء التخطيط وإنما في عدم وجوده من الأساس. على هامش هذا الموضوع، هناك سؤال لمريم ولسيدضياء، هل حصلتما على الجواب الشافي للأسئلة التي طرحتموها في المقالين التي سبق ذكرهما؟ وهل من مستجدات في هذا الجانب؟! إذا كان أمر استيعاب الكفاءات لا تتحمله وزارة الصحة لوحدها ويخضع للموازنة العامة، يجب على المسئولين في الوزارة التصريح بوجود هذا النقص حتى يكون الرأي العام في الصورة. غير أن ما يخص عدم وجود شاغر وظيفي في قسم الصحة المهنية فهذا غير صحيح. فقد تم تعيين طبيبة عربية استشارية في الأمراض المزمنة على وظيفة استشاري صحة مهنية! فهل يعقل ذلك؟ ألا يعتبر ذلك احتيالا إداريا على قانون ديوان الخدمة المدنية بتوظيف شخص على درجة غير التي يعمل بها، وبالتالي يعاقب عليه القانون؟ وإذا كان من الضروري توظيف أي طبيب على هذه الدرجة، ألم يكن من الأجدى التقدم بالطلب إلى ديوان الخدمة المدنية من دون المساس بوظيفة استشاري الصحة المهنية؟ وبغض النظر عن متى تم تقديم الطلب للديوان، قبل أم بعد إبرام عقد العمل مع الطبيبة المذكورة، فالديوان قد وافق على هذا الطلب منذ أكثر من شهرين. فهل أرجعت الأمور إلى نصابها؟ أليست هذه الوظيفة شاغرة الآن؟
النقطة الثالثة هي مشروع مخطط الصحة والسلامة المهنية الجديد ولجنة الإعداد الخاصة لهذا المشروع. إذا كان هناك مخطط لتطوير قطاع الصحة المهنية في البحرين "هناك الكثير من الأفكار التي يتم تداولها من دون وجود جدول زمني للانتهاء منها"، أليس من المفترض أن يشارك وبالأساس أطباء الصحة المهنية بوزارة الصحة في صوغ هذا المشروع؟ أو العمل مؤقتا في القسم الموجود حاليا حتى انه في حال تم تنفيذ المخطط المقترح يكونون اكتسبوا الخبرة البحرينية اللازمة للمضي قدما بهذا المشروع الكبير؟ ثم ماذا يعني تشكيل لجنتين للإعداد لهذا المشروع؟ بينما يجري الحديث الآن عن ضم هاتين اللجنتين معا!
أما فيما يخص لجنة الإعداد للخطة الوطنية للصحة والسلامة المهنية، فهناك عدة أسئلة على أدائها وما تم انجازه حتى الآن. من أهمها:
- عدم اجتماع اللجنة لأكثر من شهرين.
- إشراك غير المختصين في عمل هذه اللجنة!
- هيمنة بعض أعضاء هذه اللجنة على القرارات الصادرة.
- عدم تحديد المدة التي سينتهي منه هذا المشروع.
- التسمية الجديدة للمخطط والتي تشمل جميع موضوعات الصحة المهنية في مسمى واحد!
- النواقص العدة في مشروع المخطط سواء من الناحية العملية أو من ضعف اللغة المستخدمة والتي لا يسع المجال ذكرها في هذا المقال.
الحلول المقترحة لهذا الإشكال
.1 تشكيل إدارة مستقلة متكاملة من مختلف النواحي للصحة المهنية، تشمل طاقما متكاملا من ممرضين واستشاريين ومفتشي صحة مهنية، معالجا طبيعيا لتأهيل المرضى الذين هم بحاجة لذلك، إداريين وغيرهم من المتخصصين في الصحة المهنية.
.2 تدريب وتأهيل جميع المنتمين لهذه الإدارة الجديدة.
.3 فصل التداخل الحاصل بين اختصاصات الصحة المهنية من جهة واختصاصات الرعاية الأولى واللجان الطبية من جهة أخرى.
.4 فيما يخص الإعداد لمشروع مخطط الصحة والسلامة المهنية في مملكة البحرين، يجب وضع جدول زمني للانتهاء من عملية الإعداد، إشراك المختصين في عمل لجنة الإعداد، إعادة التفكير في التسمية لهذا المشروع ومعالجة النواقص العملية واللغوية التي يحتويها.
في ختام هذا المقال نأمل من اتحاد نقابات العمال في البحرين أن يلعب دورا أكثر جدية في الضغط على الجهات المعنية من أجل توفير بيئة مهنية مناسبة للعمال وفي مقدمتها وزارة الصحة. فهل من مستجيب؟
العدد 921 - الإثنين 14 مارس 2005م الموافق 03 صفر 1426هـ