قبل عام واحد، وجهت "القاعدة" ضربة قوية إلى أوروبا، وذلك بتاريخ الحادي عشر من مارس/ آذار . 2004 في ذلك اليوم قتل 191 شخصا في مدريد بعد تفجير عربات قطار مكتظة بالركاب. وتستضيف العاصمة الإسبانية مؤتمرا أمنيا لتدارس نتائج واقعة مدريد، ويشارك فيه أكثر من 200 من خبراء مكافحة الإرهاب من أوروبا والعالم العربي، والشيء الثابت لهم جميعا أن ليس هناك أمن مضمون بنسبة مئة في المئة. ووفقا للاستخبارات الألمانية فإنه يجري اجتذاب جماعات من المتطرفين الإسلاميين من أوروبا إلى العراق.
في ألمانيا، يجتمع رؤساء ومديرو الأقسام في أجهزة الأمن الألمانية كل يوم ثلثاء في مقر المستشار غيرهارد شرودر. وفي اللقاء الأخير تطرق رئيس المخابرات الألمانية أوغوست هانينغ للموضوع الذي تم تباحثه في الاجتماع السابق. تحدث هانينغ عما يسمى قنابل الطرق الجانبية التي يستخدمها المتمردون في العراق بكثرة في عملياتهم الدامية ويجري تفجيرها من بعد.
الثابت بالنسبة إلى رئيس المخابرات الألمانية أن ما تطلق عليهم الصحافة الغربية لقب "الجهاديين"، الذين ينشطون داخل الأراضي العراقية، لا تنقصهم الخبرة الفنية لصنع هذه القنابل وتجهيزها للتفجير غير أن الملاحظ في الفترة الأخيرة وعلى ضوء الزيادة الملحوظة لعمليات التفجير الدامية في العراق التي لا تفرق بين المدنيين والعسكريين وموظفي وأعضاء الحكومة، أن العراق تحول إلى جبهة حرب يتدفق إليها "الجهاديون" ليس من بلدان عربية وإسلامية فحسب، بل من أوروبا أيضا.
ولا يخفي خبراء الإرهاب في ألمانيا قلقهم هذه الأيام من أن يكون هناك مئات الأشخاص في أوروبا قد توجهوا خلال الأشهر الماضية إلى العراق للمشاركة في الحرب هناك. ويعتقد هانينغ أن ما يشجع على القيام بمثل هذه الرحلة الخطيرة وجود رغبة للتدرب على كيفية صنع العبوات الناسفة. وما يقلق هانينغ وغيره من خبراء الإرهاب السؤال القائل: كيف سيستغل العائدون من العراق الخبرة التي اكتسبوها في الفلوجة عند عودتهم إلى أوروبا؟ وهل معنى تدربهم في العراق كما تشيع أجهزة الأمن الغربية يشكل تهديدا على أمن أوروبا، وأن مدريد المحطة الأولى لسلسلة مقبلة من التفجيرات الدامية؟
منذ هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 انهمك الأوروبيون في وضع سيناريوهات لهجوم مشابه على عواصم وسط أوروبا. وحين كانت الأنظار متجهة صوب لندن كون بريطانيا أبرز حليف موال للولايات المتحدة؛ أو حتى روما، تفاجأوا بوقوع الضربة في مدريد، على رغم أن رئيس الحكومة الإسبانية السابق أثنار زج ببلاده في الحرب وأعلن مساندته للرئيس بوش، لكن العالم كله كان يعرف أن أثنار فعل ذلك ضد رغبة نسبة عالية جدا من الشعب الإسباني.
وسقطت حكومة أثنار نتيجة تفجيرات مدريد، وسارعت أوروبا لمواجهة الحادث الدامي على طريقتها البيروقراطية التقليدية، إذ تم تعيين منسق تابع للاتحاد الأوروبي يدعى جيس دو فريز، ليعمل في التنسيق بين الدول الأعضاء في مواجهة مشكلة الإرهاب. وحتى اليوم يعمل كل بلد وفقا لطريقته الخاصة في مواجهة الإرهاب بعد أن طرق باب أوروبا قبل عام.
والجاليات العربية والإسلامية عانت كثيرا منذ الهجوم على نيويورك وواشنطن، سواء في بريطانيا أو إسبانيا أو ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. وكشفت دراسة تحليلية لجامعة بيلفيلد أن غالبية الألمان سرعان ما يوجهون أصابع الاتهام إلى عرب ومسلمين، والأمر ينطبق على سائر الشعوب الأخرى في أوروبا، على رغم قيام سفارات المملكة العربية السعودية في عواصم غربية قبل أسبوع بشراء مساحات في صحف أوروبية واسعة الانتشار لنشر إعلان يشير إلى الجهود التي تقوم بها في مكافحة الإرهاب. وتضمن الإعلان أيضا ترجمة لمقررات مؤتمر الرياض عن الإرهاب الذي اقترح إنشاء مركز في جنيف لدراسات الإرهاب وجذوره.
وحذر تقرير وضعه مكتب حماية الدستور "البوليس السري الألماني" من ظهور جيل جديد من "المجاهدين"، وكشفت تحليلات الأمن الألماني عن احتمال أن يكون بعض أبناء العمال الضيوف بينهم. وتوصلت تقارير أخرى وضعها مكتب الجنايات الفيدرالي إلى نتيجة مماثلة. ويتفق الخبراء الألمان في الرأي أنه بعد سقوط الطالبان و"القاعدة" في أفغانستان أصبح العراق المركز الجديد الجذاب للمقاتلين. ويعتبر المراقبون هذا الرأي التحليلي اعترافا من أجهزة الأمن الألمانية بأن حرب العراق كانت خطأ كارثيا، كون العراق في عهد صدام حسين آمنا في الداخل، ولم يكن للمتطرفين الإسلاميين أي نفوذ على أرضه.
ووفقا لرأي أجهزة الأمن الألمانية يتبع المقاتلون استراتيجيات قصيرة وبعيدة المدى. ويحاول هؤلاء القيام بمهمات تبشيرية وسداد رسوم مدرسية لأولاد الفقراء في بلدان مثل البوسنة أو غرب وشرق إفريقيا للحصول على تأييد شعبي. وهو الأسلوب الذي اتبعه أسامة بن لادن قبل انتشار اسمه عقب هجمات نيويورك وواشنطن. كما تستعين هذه الجماعات بالتقنية العصرية وخصوصا الإنترنت التي تستخدم بصورة متزايدة لتوجيه الأوامر للأتباع كما تستخدم في أعمال التدريب على صنع العبوات الناسفة، وهو أسلوب تتبعه خلايا النازيين الجدد في ألمانيا. ويقول تقرير الأمن الألماني إن عمليات التبشير وتجنيد الأشخاص تجري في المساجد والسجون، ويجري تشجيع الشباب على السفر إلى العراق للمشاركة في الحرب ضد القوات الأميركية.
وأشار التقرير إلى أن بعض أئمة المساجد في ألمانيا ينشطون في الدعوة إلى السفر إلى العراق. وينتشر عملاء الأجهزة الأمنية في المساجد بمختلف مدن ألمانيا لسماع ما يقوله خطباء الجمعة. واضطرت أكاديمية الملك فهد بمدينة بون للاستغناء عن أحد موظفيها بعد أن تطرق إلى الجهاد في خطبة الجمعة. ومنذ ذلك الوقت تخضع الأكاديمية لرقابة البوليس السري الألماني.
وذكرت صحيفة "زود دويتشه" أن أجهزة الأمن تراقب عمليات التحويلات المالية وتعتقد أن الأموال التي تتدفق على العراق مصدرها أشخاص سعوديون وبعض الأثرياء من دولة الإمارات العربية يمولون حرب المقاتلين، وفقا لمعلومات المخابرات الألمانية. وكان المستشار شرودر قد زار السعودية والإمارات في إطار جولة خليجية قبل أسبوع، لكن الحكومة الألمانية لم تشر إلى أنه ناقش هذه المسألة مع القادة والمسئولين هناك. ويقدر الخبراء الألمان عدد المقاتلين الأجانب في العراق بين 2000 و3000 مقاتل، ينحدر غالبيتهم من السعودية والأردن واليمن. وقال مسئول أمني عالي المستوى لم تشر الصحيفة لاسمه إن من بينهم أشخاص سافروا من ألمانيا يقل عددهم عن المئة.
قبل شهرين تم اكتشاف خلية صغيرة في باريس تعمل في تجنيد الأشخاص، وفي الشهر المقبل سيمثل عراقي ضبط وهو يحاول تجنيد بعض الشباب. وعلى طاولة المدعي الفيدرالي العام كاي نيهم 108 ملفات تحقيق ضد إسلاميين مشتبه في تعاونهم مع تنظيمات إرهابية.
ويقول منسق أجهزة المخابرات في مقر المستشارية إرنست أورلاو، إن الكثير من المشتبه فيهم هم من المجرمين الصغار وتجار المخدرات. وتعتقد أجهزة الأمن الألمانية أن مراكز تجمع الإسلاميين والمتعاطفين معهم في ألمانيا في مدن فرايبورغ وبراونشفايغ وبرلين. وليس لهؤلاء نشاط يذكر في الشطر الشرقي من ألمانيا. ووضع البوليس السري الألماني قائمة بأسماء إسلاميين يعتقد أنهم على استعداد للقيام بأعمال عنف. وعلى رغم ذلك فإن أجهزة الأمن الألمانية لا تعتقد أن أمن ألمانيا معرض للتهديد على الأقل في الوقت الحالي
العدد 918 - الجمعة 11 مارس 2005م الموافق 30 محرم 1426هـ