"في عالم تشتد فيه المنافسة لا مكان للطموحات المتواضعة". قول رائع لسمو ولي العهد أتى في إطار دعوة أكثر روعة وجهت للأطراف والأطياف كافة للمشاركة في بناء رؤية وطنية جمعية تحكمها شمولية وصراحة قل نظيرها في دول العالم. ففي 24 فبراير/ شباط الجاري انتهت حلقة من حلقات ورش إصلاحات ثلاثية الاقتصاد وسوق العمل والتعليم والتدريب بتوافق لم يكن مشاهدا بالقدر نفسه في ديسمبر/كانون الأول .2003 وقد تفاعلت غرفة التجارة والصناعة مع الحدث برفع تقرير إلى صاحب السمو، ضمنته مرئيات رجال الأعمال. وقد عرضت المذكرة محاور شملت تنفيذ الإصلاحات القطاعية دفعة واحدة، ورفع كلفة العمالة الوافدة "الرسوم"، وتاريخ بدء الإصلاحات "مطلع العام 2006"، وسقف العمالة الوافدة، وصندوق العمل، والعمالة المنزلية "خدم المنازل".
سأركز هنا على محور ضامر محل اختلاف لم يرق إلى الخلاف بعد، ألا وهو خدم المنازل. هذا المحور يحمل إشكالات مستترة مع قدر من الأخطاء المفاهيمية ورد بعضها في متن تقرير غرفة التجارة، بينما ورد بعضها الآخر في آخر تصريحات وزارة العمل.
إشكالات مفاهيمية
هل حقا خدم المنازل عمالة غير منتجة؟ حكم تقرير غرفة التجارة والصناعة مغالطة تقوله إن "خدم المنازل عمالة غير منتجة"، فهل هذا صحيح؟ عنيت الأمم المتحدة باحتساب مساهمة خدم المنازل في الناتج الإجمالي باعتباره يمثل جزءا من القيمة المضافة لإجمالي الإنتاج من السلع والخدمات في الاقتصاد، وحرص النظام على تضمين القيمة المضافة للقطاع العائلي الذي يشمل عمل الخدم والطباخين والسواق ومربيات الأطفال والمزارعين في المنازل. وفقا لذلك، بلغت القيمة المضافة للأفراد المعنيين بإدارة الأعمال المنزلية "السابق ذكرهم" 18,9 مليون دينار بحريني في العام ،2001 مقارنة بـ 15,7 مليون دينار في العام .1997 أما الإحصاءات المتاحة بصدد مساهمة خدم المنازل فقط، فتظهر أنها بلغت 1,53 مليون دينار في العام 2000 مقارنة بـ 0,89 مليون دينار في العام ،1996 وقد سجلت نموا بلغ في المتوسط 18 في المئة سنويا خلال الفترة 1996 - 2000 "لاحظ النمو".
المثير للدهشة، أن نظام الحسابات القومية المعتمد من الأمم المتحدة يدرج مساهمة الخدم والطباخين وسواهم في الناتج، بينما يتجاهل عمل ربات البيوت، علما بأنهن يقمن بما هو أكثر! وقد سبق للكاتب أن طرح هذا الأمر في مؤتمر النمو السكاني بصوت مدو تحت لافتة "القيمة المضافة المستترة لعمل ربة المنزل". "1 - 3 ابريل/ نيسان 2002".
والسؤال: ألا يلزم تقدير القيمة الحقيقية للعمل في المنازل عوضا عن تجاهل تلك المساهمة الاقتصادية؟ الموضوع يكتنفه بالقطع قدر من التعقيد، إلا أن ذلك التعقيد لا يمكنه طمس الحقيقة. والغريب أن نظم الحسابات القومية في الدول المتقدمة تحتسب مساهمة الخدم في الناتج المحلي الإجمالي، بيد أنها تطمسها حال اقتران رب الأسرة بالخادمة.
إشكال البيانات الإشكالية يؤكده تضارب الإحصاءات المنشورة في نتائج التعداد السكاني على الموقع الإلكتروني مع التصريحات الصحافية الرسمية. أحدث تصريحات وزارة العمل أطلقت الرقم 80000 فرد.
إن وجود أربعة أصفار مرتبة هكذا بتناغم جميل يثير الشك في دقة الإحصاءات. وما يدعو إلى عدم الاعتداد بهذا الإحصاء تؤكده نتائج المسح الشامل للسكان للعام 2001 والتي تشير إلى أن عدد خدم المنازل بلغ 25327 فردا. الفرق بين الرقمين يشير بالنتيجة إلى أن النمو بلغ 216 في المئة خلال فترة لا تتجاوز السنوات الثلاث فقط.
عرض تحليلي
بلغ عدد البحرينيات ممن تجاوزت أعمارهن 15 سنة 128 ألفا و490 في العام ،2001 أما عدد المتفرغات منهن للمنزل فبلغ 64 ألفا و682 بحرينية، مقابل 26066 تعمل، و5284 متعطلة لم يسبق لها العمل، و1418 متعطلة سبق لها العمل، و633 متقاعدة. وتشكل البحرينيات المتفرغات للمنزل أكثر من ضعفي عدد خدم المنازل. أما إذا صنفنا المتعطلات والمتقاعدات ضمن ربات البيوت، فإننا نكون إزاء 72017 امرأة، يشكلن أكثر من 2,8 ضعف خدم المنازل في العام .2001
وفقا للبيانات الحديثة المعلنة في التصريحات الرسمية لوزارة العمل "80 ألفا"، يشكل عدد الخدم قرابة 62 في المئة مقارنة بجملة الإناث البحرينيات ممن تجاوزت أعمارهن الـ 15 سنة، ويتجاوز عددهن عدد البحرينيات المتفرغات للمنزل بحوالي 20 في المئة، بينما يتخطى عددهن عدد العاملات البحرينيات قرابة ثلاثة أضعاف! يلزم التذكير هنا أن عدد المنازل بلغ في مملكة البحرين - وفقا للمسح السكاني 2001 - قرابة 105 آلاف و686 منزلا، وعليه فإن مؤشر عدد الخدم لكل منزل سيبلغ 1,3 تقريبا، علما بأن عدد المنازل هنا يشمل منازل البحرينيين وغير البحرينيين كافة بمختلف مستوياتهم المعيشية.
مربط الفرس
هنا، نأتي إلى محور الخلافات الضامرة، فالمتوسطات الإحصائية تخفي خبايا رقمية مهمة وجوهرية، فليست كل البيوت تنعم بوجود خادمة باعتباره احد مؤشرات الرفاه، فهناك عدد مبهم من البيوت يقطنها عشرات الخدم، وعدد مبهم آخر به خادمة واحدة، وفي الحالين ما كان لهذه البيوت أن تلجأ للخدم لولا وجود قيمة وإنتاجية ما لوجودهم، أليس المستهلك رشيد بطبعه كما يقول علم الاقتصاد. والاهم هو القول إن هناك بيوتا لا تحظى بخادمة. ترى كم يبلغ عددها؟ ولم لم تستخلص هذه البيانات من نتائج المسح السكاني علما بأنها ممكنة؟ إذن نحن إزاء غيبة بيانات مهمة للتقرير بشأن الخدم في المشروع الإصلاحي باعتبارهم يشكلون نسبة مهمة من جملة العمالة الأجنبية في سوق العمل.
المعالجة
أولا، ولكي تكون المعالجة موضوعية، يجب لجم المصالح الذاتية وصولا إلى الأهداف الوطنية المرتجاة. واعتقد انه يلزم - بادئ ذي بدء - تصنيف المنازل كافة وفقا لعدد الخدم العاملين بها، كأن نقول إن هناك كذا منزل به خادمة واحدة على الأقل، وكذا منزل به خادمتين، وهلم صعودا. عندها يمكن فرض مساهمة من أرباب البيوت في صندوق العمل المقترح، مع تقديم استثناءات للبيوت التي يقل فيها عدد الخدم عن رقم لا أود المجازفة بطرحه. هذه الفكرة تنسجم في الواقع مع مفهوم تباين المرونات الدخلية للمواطنين باعتباره معيارا اقتصاديا يخدم برامج إصلاح سوق العمل، وفي هذا إعادة لتوزيع الدخل بين المواطنين وفقا لقدراتهم الدخلية، الأمر الذي يدفع باتجاه العدالة في عملية تصحيح سوق العمل
العدد 909 - الأربعاء 02 مارس 2005م الموافق 21 محرم 1426هـ