تشير تقارير صحافية - نشرتها وسائل إعلام ألمانية وتقارير بعث بها دبلوماسيون أجانب في "إسرائيل" إلى حكوماتهم - إلى أن التوتر تفاقم بصورة خطيرة بين المستوطنين الصهاينة والحكومة الإسرائيلية التي يتزعمها رئيس الوزراء ارييل شارون الذي كان يعرف بلقب الأب الروحي للمستوطنين. وحين كان شارون وزيرا للبنية التحتية وفر دعما كبيرا للمستوطنين وساعدهم في إقامة المزيد من المستوطنات في أراض تابعة للفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية. ويجمع المراقبون على أن هذا التوتر تفاقم بصورة ملفتة للنظر بعد قمة شرم الشيخ التي استضافتها مصر وشارك فيها ملك الأردن عبدالله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي شارون. وساهمت هذه القمة في زيادة الانفراج الطارئ على العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية كما زاد احتمال التوصل لاتفاق سلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وكانت "إسرائيل" قد استخدمت المستوطنين في السابق سلاحا ضد الفلسطينيين وأداة مهمة لترسيخ احتلالها للأراضي الفلسطينية. ليس سرا أن "إسرائيل" أقامت المستوطنات قبالة مناطق الفلسطينيين لتشكل الحزام الأمني الذي يحمي "إسرائيل" من هجمات المقاومة الفلسطينية.
ولئن كان أميركيون وكنديون من منظمات صهيونية متطرفة أو جماعات اليهود الذين أتوا لـ "إسرائيل" من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق فإن غالبية سكان هذه المستوطنات حصلوا على امتيازات مقابل السكن في مناطق الحزام الأمني ويشعرون بالغبن على اثر قرار شارون تنفيذ خطة الانسحاب من غزة بما فيها إخلاء المستوطنات غير المشروعة بنظر القانون الدولي وإخلاء أربع مستوطنات أخرى في الضفة الغربية في إطار صفقة باركتها الولايات المتحدة الحليف الأكبر لـ "إسرائيل"، أصبح المستوطنون على استعداد للضغط على الزناد وتحدي الحكومة ولو اضطر بهم الأمر إلى اغتيال شارون والوزراء الذين يدعون إلى تنفيذ إخلاء المستوطنات.
وذكر تقرير نشرته صحيفة "زود دويتشه" لمراسلها في تل أبيب تورستن شميتز أنه في الوقت الذي خيم فيه الهدوء على المسار الفلسطيني الإسرائيلي زاد التوتر بصورة ملفتة للنظر بين المتطرفين الصهاينة والحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي دفع المدعي العام الإسرائيلي إلى التفكير بمقاضاة المستوطنين الذين يتعرضون بالقوة للوزراء ويدعون إلى استخدام العنف ضد أعضاء الحكومة. وشاء القدر أن يكون بين آخر ضحايا المستوطنين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو أحد أبرز معارضي خطة الانسحاب من غزة التي وضعها غريمه في كتلة الليكود شارون. فقد تعرض مستوطنون لنتنياهو قبل أيام حين كان يحضر حفل زواج قرب تل أبيب وصاحوا به: يومك آت أيها القاتل. كما رمي نتنياهو بالصحون قبل أن ينقله حرسه الشخصي على عجل إلى سيارته التي لم تتمكن من مغادرة المكان لأن المستوطنين كانوا قد بقروا الإطارات.
ويستدل مما نشر وأشيع بأن الحركة العنصرية الإسرائيلية المتطرفة "كاخ" التي كان يتزعمها الحاخام المتطرف مائير كاهانا الذي قتل في العام 1990 في الولايات المتحدة، تقود حملة مسعورة ضد الحكومة الإسرائيلية وتكشف نشاطاتها على أنها لن تتأخر لحظة واحدة في استخدام القوة والعنف لتعطيل خطة الانسحاب من غزة. ولا تعتمد هذه الحركة على أعضائها من المستوطنين بل أيضا على أتباع ومؤيدين لها داخل الجيش الإسرائيلي الذين ساهموا في إمدادها بالسلاح. كما تكشف التقارير أن هناك مجموعات من الجنود والضباط الإسرائيليين تعهدوا للمستوطنين بعدم الانصياع لأوامر المسئولين السياسيين والعسكريين إذا طلب منهم العمل في إخلاء المستوطنات. وفاجأت مجموعة من الشباب المنتسبين لحركة "كاخ" وزيرة التربية الإسرائيلية ليمور ليفنات مطلع الشهر الجاري حين كانت تزور مقبرة في تل أبيب وصاحوا بها: يا للعار... تريدون إبعاد اليهود عن ديارهم. وبالكاد استطاع الحرس الشخصي للوزيرة إبعاد مجموعة الشباب والبنات الذين زرعوا الهلع في نفس الوزيرة التي فرت من المقبرة. لم يسعف وزيرة التربية كون شقيقها نعوم ليفنات المتحدث باسم المستوطنين.
إلى جانب الانسحاب من غزة ينتظر الفلسطينيون بعد الاتفاق على هدنة جديدة مع "إسرائيل" أن يتم تنفيذ خطة الانسحاب من غزة وإطلاق سراح مئات من المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وفقا لتصريحات منسوبة لنعوم ليفنات فقد جمع المستوطنون تواقيع عشرة آلاف من الجنود والضباط الاحتياطيين الذين تعهدوا بعدم تنفيذ أوامر إذا صدرت لهم لإخلاء المستوطنات في قطاع غزة والضفة الغربية. وقال نعوم إنه بالإضافة إلى كل صاحب توقيع هناك خمسة من رفاقه يرفضون خطة الانسحاب. وهكذا أصبحت وزارة الدفاع الإسرائيلية على علم مسبق بأنها ستواجه عصيانا عسكريا حين تأمر الجيش بإخلاء المستوطنات. وتعتمد "إسرائيل" بصورة كبيرة على الاحتياطيين الذين بينهم أعداد كبيرة من المستوطنين الذين لا يؤمنون بعدم التخلي عن شبر واحد بل بقيام دولة "إسرائيل" الكبرى من النيل على الفرات.
الهجوم على نتنياهو وليفنات أكثر من مجرد حادثين فرديين. سلاح المستوطنين أصبح مسلطا ضد الحكومة الإسرائيلية. شارون الذي يعرف أكثر من سواه خطر المستوطنين الذين لا يردعهم شيء عن المضي في تحقيق أهدافهم، طلب زيادة عدد حرسه الشخصي وأصبح يتجنب الظهور علنا قدر المستطاع. وأبلغ شارون بعض المقربين منه أنه تلقى أخيرا تهديدات بالقتل من مستوطنين وأن أحدهم قال في رسالة إن زوجته ليلي المتوفية منذ سنوات في انتظاره.
يتحدث المراقبون عن عودة الأجواء التي سبقت اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اسحاق رابين الذي قضي نحبه بعد وقت قصير من توقيع اتفاق أوسلو على يد يهودي متطرف. وهدد متطرفون وزير المواصلات مائير شيتريت الذي ينتمي أيضا إلى كتلة الليكود وأبلغوه أنهم سيتعرضون بالسوء لأفراد أسرته. قال شيتريت إنه لا يخشى المستوطنين لكنه دعا إلى منعهم من تجاوز الخط الأحمر. قبل اغتيال رابين صدرت تهديدات مماثلة من قبل المستوطنين ولا يستبعد أن يحمل اليهود السلاح ضد بعضهم بعضا. وقال شيتريت إنه ينبغي عدم الاستخفاف بهذه التهديدات. كما حصل وزير المواصلات بنيامين بن أليعازر الذي ينحدر من العراق على تهديدات من المستوطنين الذين وصفوه بالنازي، واتهموه بالتحيز للعرب. قبل عشرة أعوام تعرض بن أليعازر لتهديدات مماثلة وهوجم في إحدى المرات داخل سيارته المصفحة إذ قام المهاجمون بهزها وقام سائقه بنجدته في آخر لحظة. بعد الحادثة بوقت قصير حذر أعضاء الحكومة في جلسة عادية: لن يكون الوقت طويلا حتى يتعرض المتطرفون لرئيس الوزراء واغتياله إذا قرروا ذلك. ويتذكر إيتان هابر الذي كان قبل عشرة أعوام مستشارا لرابين وتربطه به علاقة صداقة قوية كيف أن الأجواء اليوم تعيد ذكريات الماضي. فقد وصف المستوطنون رابين بالنازي وهذه أكبر إهانة يمكن أن تلحق بيهودي نسبة للمحرقة وكيف حرضوا على قتله ونشروا ملصقات ظهرت فيها صورة له بشارب هتلر وقال رجال دين متطرفون إن رابين لم يعد منا وهكذا تم التمهيد لاغتياله. أب المستوطنين أصبح يعيش في خطر وقد يعيد التاريخ نفسه. فقد كتب المستوطنون على الجدران بعد يوم واحد على نهاية قمة شرم الشيخ: رابين بانتظارك يا شارون
العدد 904 - الجمعة 25 فبراير 2005م الموافق 16 محرم 1426هـ