جاء اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق، الشخصية العربية المرموقة رفيق الحريري ايذانا ببدء مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، يتفجر خلالها بركان الغضب.
بركان الغضب لن يقتصر هذه المرة على لبنان ولا على سورية وحدهما، لكنه حتما سيمتد الى دول عربية أخرى، ظنت لفترة ماضية ولاتزال تظن حتى الآن أنها بمنأى عن حزام الزلازل وثورة البراكين.
لكن الواقع بقراءته السليمة يقول ان الغضب والسخط والرفض والتمرد يعم المنطقة، لأسباب مختلفة، بعضها خارجي، ومعظمها داخلي، ولا يكفي هنا الاتكال المطلق على أن الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي لفلسطين، والاستعمار الأميركي للعراق، بكل التداعيات الدموية والسلبية، هما السبب الوحيد لهذا الغضب المتراكم والمتمرد المتفجر.
ذلك أنه بالاضافة الى الاستعمار الأجنبي، المباشر وغير المباشر، ثمة عوامل داخلية هائلة، تفجر كوامن الغضب وتثير دواعي التمرد، لا تكاد دولة تنجو منها الآن، ويأتي تحكم النظم والحكومات واستبدادها، واغلاقها منافذ الحريات وفسادها واستنزاف ثروات البلاد، في مقدمة هذه العوامل... فإن تراكمت الضغوط الداخلية الخانقة، على ضغوط أجنبية طاحنة، لم يعد أمام الناس سوى اعلان الغضب والتزام طريق التمرد.
وبصرف النظر عمن اغتال رفيق الحريري وهو على رأس المعارضة السياسية اللبنانية، فإن الهدف واضح والنتيجة صارت معروفة، وهما معا ينتهيان الى تحويل الساحة اللبنانية الى نموذج "أوكراني" فإن نجح سريعا في اشعال ثورة شعبية، على طريقة "الثورة الديمقراطية البرتقالية" التي اجتاحت أوكرانيا قبل شهور، ومن قبلها جورجيا وصربيا، فإن الخطوة التالية هي نقلها بالسرعة نفسها والحماس نفسه الى سورية ومنها الى غيرها، يجري الآن تمهيد الأرض فيها وزرع البذور التي ستنبت غدا.
باسم فرض الاصلاح الديمقراطي من ناحية، ومحاربة الارهاب والتطرف والعنف من ناحية أخرى تدور العجلة على مدار الساعة الآن، إذ تضغط القوى الاصلاحية والديمقراطية من الداخل، طلبا للاصلاح ودفعا للتغيير الوطني، استباقا للاصلاح المفروض من الخارج، واذ تضغط القوى الدولية وخصوصا أميركا، لفرض اصلاحها، لاتزال نظم الحكم تناور وتداور، تسوف وتتهرب من هذا الاستحقاق الاصلاحي الذي تأخر كثيرا وتخلف عن ركب التغيير العالمي، وبينما الازمات السياسية والاقتصادية الاجتماعية تنهش الشعوب الكادحة المقهورة، التي هي مخزون الغضب والتمرد.
هنا نقول ان اغتيال رمز كبير من رموز "الحكم بالأمس والمعارضة اليوم"، في وزن الملياردير رفيق الحريري، أهم زعماء الطائفة السنية في لبنان، والمتهم بأنه المحرك الرئيسي للضغط الأميركي الفرنسي على لبنان وسورية، قد جاء في توقيت مدروس بدقة، وهي الدقة نفسها التي جرى بها رسم وتنفيذ عملية اغتياله في منطقة من أكثر مناطق بيروت ازدحاما، وفي وضح النهار، لكي يراها الجميع ويعيش هولها المؤيدون والمعارضون على السواء.
دوائر الحكم اللبناني والسوري، سارعت بتوجيه أصابع الاتهام التقليدية، الى "العدو التقليدي"، "إسرائيل" ومن يحالفها، لأنهم جميعا يريدون فك الارتباط السوري اللبناني، واخراج الجيش السوري، الآن وفورا، وفق التصريحات الأميركية، من الأرض اللبنانية، وتصفية المقاومة اللبنانية، وخصوصا حزب الله "المتهم بالارهاب" والهاجس الأكبر لـ "إسرائيل".
دوائر المعارضة اللبنانية، سارعت من ناحيتها بتوجيه أصابع الاتهام بجرأة غير مسبوقة، الى "الحكم الديكتاتوري اللبناني السوري"، المستفيد من اشعال الحرب الأهلية اللبنانية من جديد، والتي كانت مبررا لدخول القوات السورية وبقائها فوق الأرض اللبنانية.
هكذا نجح مخطط اغتيال الحريري في اشعال حرب علنية مفتوحة، بين الطرفين المتصارعين فوق هذه الأرض الصغيرة الرقصة الكبيرة الأهمية، فريق يؤمن بأنه يمسك بزمام الشرعية الدستورية، وهو صاحب القرار الفيصل في العلاقة مع سورية، وفريق يعتقد أنه يقف معارضا تحت راية الشرعية الدولية، النابعة من قرار مجلس الأمن ،1559 الداعي إلى اخراج القوات السورية وتصفية "شبكات الارهاب" والمسنود اميركيا وفرنسيا وأوروبا.
وبين تناقض مواقف الطرفين، يترنح الموقف العربي بباطنية خبيثة، يظهر غير ما يبطن، البعض يناصر سورية والحكم اللبناني علنا وربما يتصرف بالعكس، والبعض يغذي اطراف المعارضة لتقوى شوكتها، لكنه يتمنى ألا تعرف دمشق، غير أن الكل لا يريد اغضاب أحد، لا سورية ولا أميركا ولا فرنسا ولا حتى أصغر جمهوريات الموز! ففي التقية أحيانا منجاة!
يلفت النظر في كل الأحوال، اختيار الساحة اللبنانية الهشة مجالا لاختبار صراعات القوى وتناحر الاطراف، وخصوصا في هذه الأيام، ونقطة انطلاق مرجحة لبدء "ثورات الديمقراطية البرتقالية" على النموذج الاوكراني، الذي سبق تجريبه بنجاح في دولة ورثت كل خصائص الحكم السوفياتي الشمولي السابق، فإن كان ذلك قد حدث، فمن الاسهل الآن تجريبه في دولة مفتوحة على مصراعيها مثل لبنان، يتباهى دوما بالحرية.
فلبنان يتمتع كدولة ومجتمع بأكثر هوامش الديمقراطية اتساعا، في المنطقة العربية، وهي في الواقع ديمقراطية نظرية الى حد كبير، تعتمد على حرية الكلام "عبر الصحف والتلفزيونات" وحرية حركة الاموال، وحرية السياحة والسفر، ولذلك ظلت منذ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، في بدايات اربعينات القرن العشرين، ساحة مفتوحة لممارسة حرية الصراع والصدام بين مصالح وسياسات اطراف عربية ودولية عدة.
لكن من الناحية العملية، ظلت الديمقراطية اللبنانية محكومة كما يعلم الجميع بقواعد غير ديمقراطية، اذ إن تركيبة الحكم وآليات تداوله وطرق انتخابه، تقوم على اسس طائفية، توازن بين مصالح وأهداف 18 طائفة دينية ومذهبية، وتوزع بينها المناصب والمكاسب وبالتالي لم تعد المساواة في المواطنة هي المعيار، لكن المعيار الحاسم هو الموازنة بين الطوائف، ولم يعد حكم القانون في قبضة الدولة، بقدر ما اصبح في أيدي زعماء الطوائف!
وبقدر ما يعتبر البعض مثل هذه الموازنة الطائفية، وخصوصا توزيع المناصب العليا بين رئيس الجمهورية للموارنة، ورئيس البرلمان للشيعة، ورئيس الحكومة للسنة، هي جوهر الديمقراطية وعنوان الحرية في لبنان، بقدر ما أن الواقع يؤدي دائما الى نقيض ذلك.
وما الحرب الأهلية الرهيبة التي احرقت لبنان وتوحشت على اللبنانيين، على مدى خمسة عشر عاما مريرة، سوى نتاج هذه الديمقراطية الطائفية، وعلى رغم كل مرارات الحرب الأهلية، فإن حكم الطائفة ودستورها وهياكلها، قد عاد سيرته الأولى من دون اعتبار لكل ما جرى، ومن دون قدرة حقيقية على تجاوز حكم توازن مصالح الطوائف، الى حكم ديمقراطي حقيقي يساوي بين المواطنين بصفتهم وليس بانتمائهم الطائفي الضيق. لذلك ظل لبنان ساحة مفتوحة لصراع الارادات المحلية والاقليمية والدولية باسم الحرية!
دخول القوات السورية بكثافة الى لبنان، لم يكن بعيدا عن هذا المناخ، لكن تم باسم انهاء صراع الطوائف واخماد الحرب الاهلية، تحت شرعية عربية معروفة "قوات الردع العربية" وفي ظل اتفاق الطائف الشهير العام ،1989 الذي كرس الحكم الطائفي أكثر مما خدم الحكم الديمقراطي.
وكان المفترض أن تغادر القوات السورية لبنان، بعد عامين من الدخول، لكنها بقيت على مدى أكثر من خمسة عشر عاما حتى الآن، وهو أمر إن كان يعكس الاهداف السورية ويترجم مصالحها الحيوية والاستراتيجية، ويحول لبنان الى ورقة ضغط قوية في مواجهتها مع العدو الاسرائيلي، فإنه اصبح عنصر استنزاف لسورية وورقة ضغط ضدها وعامل احراج عالمي لها، ومن ثم تزاحمت عليها الضغوط متعددة الاتجاهات والاهتمامات في الفترة الأخيرة لاجبارها على ترك لبنان.
باسم تحرير لبنان، "من الاحتلال السوري" صعدت السياسة الاميركية ضغوطها العنيفة ولم يكن قانون محاسبة سورية وتحرير لبنان، الا مقدمة حقيقية لاجبار سورية، ليس على الانسحاب من لبنان فقط، ولكن اساسا للانكفاء داخل حدودها، وقبول كل شروط التقوقع وترك لبنان لأهله، وهكذا جاء القرار الدولي 1559 الصادر عن مجلس الأمن في خريف العام الماضي، ليضفي شرعية دولية على القانون الاميركي بمحاسبة سورية، وسارعت فرنسا "الأم الرؤوم للبنان"، كما يؤمن قطاع كبير من اللبنانيين والفرنسيين، الى مساندة أميركا في الضغط على سورية، ليس حبا في السياسة الأميركية، ولكن لاعادة النفوذ الفرنسي في المستعمرة السابقة الى مكانته، بعد أن طاردته متغيرات الوجود السوري، وهددته التدخلات الاميركية الأخيرة.
داخل دائرة الحصار الحديد، تقع سورية الآن، جيش الاحتلال الاميركي يضغط عليها عبر العراق من الشرق، وجيش الاحتلال الصهيوني يضغط من الغرب، والأمم المتحدة تطالبها بالانسحاب من لبنان فورا تنفيذا للقرار 1559 والولايات المتحدة وفرنسا تقودان حملة دولية هائلة "لإعادة سورية الى حجمها" كما قال أحد الخبراء الاميركيين... ثم فوق ذلك كله تبقى تهمة مساندة الارهاب، أي "المقاومة الفلسطينية والعراقية" سيفا معلقا فوق بوابات دمشق التاريخية، مثلما تظل تهمة "الدكتاتورية وقهر الشعبين السوري واللبناني" نصلا ينغرس في شرايين الحكم، الموصوف اميركيا بالحكم المارق في دولة مارقة، والمتحالف مع حكم مارق آخر في إيران!
فوق هذه الأرضية المتفجرة الملتهبة تتسارع خطوات الصدام الحتمي نحو قمته المأسوية، وفي طريق الوصول الى هذه القمة جاء اغتيال رفيق الحريري، لتسخين الموقف فإن كان "الموالون" قد ارتكبوا الجريمة، فهدفهم إعادة اشعال الحرب الأهلية لخلط الأوراق مبكرا واجهاض المخططات، وإن كان المعارضون هم الذين فعلوها فلكي تصبح مبررا لشن الهجوم الأخير، ليس في لبنان فقط ولكن في سورية أساسا وقد بدأوا التمهيد باعلان "انتفاضة الاستقلال"!
ولأنني استبعد وقوع عمل عسكري شامل من جانب أميركا وفرنسا و"إسرائيل"، ضد الوجود السوري في لبنان، خلال الفترة القريبة فإنني أرجح اللجوء الى الخيار الاول، وهو استغلال الغضب اللبناني من جريمة اغتيال الحريري، لاشعال "الثورة الديمقراطية البرتقالية" وها هي أطراف المعارضة اللبنانية قد بدأتها فعلا، تارة باعلان العصيان المدني، وتارة بالمظاهرات الصاخبة، وتارة بالتهديد باستقالة نواب المعارضة من البرلمان جماعيا لهز شرعية الحكم، وتارة بالمطالبة بفرض الانتداب الأجنبي على لبنان، على حد قول الزعيم الدرزي المعارض وليد جنبلاط الذي يقال إن رأسه هي القادمة، بعد الحريري ليكون على مثال ابيه كمال جنبلاط الذي اغتيل بالطريقة نفسها.
ديمقراطية الألوان الزاهية هي القادمة فقد لاحظ الجميع، كيف اتشح زعماء المعارضة اللبنانية "بكوفيات حمراء وبرتقالية" خلال اجتماعهم يوم الجمعة الماضي 18 فبراير/ شباط .,,2005 إنه تاريخ ورمز!
خير الكلام:
قال علي بن أبي طالب:
المرء عدو ما جهله!
مدير تحرير صحيفة "الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 903 - الخميس 24 فبراير 2005م الموافق 15 محرم 1426هـ