ثمة بعد بشأن الصخب الدائر بشأن المؤتمر الدستوري الذي عقد في العاشر من فبراير/ شباط الجاري، هذا المؤتمر الذي أطلق عليه البعض كما حلى له تسمية "مؤتمر فبراير"، لدواعي استنقاص وتصغير للمختلف معهم في الشأن الدستوري. لا ريب ان التاريخ لن يغفل ذلك، ولاشك انه سلوك يستدعي التمحيص والدارسة بحد ذاته. على أية حال، يستوقف المتابع في هذا البعد أمرين الأول منهما، حقيقة ما يدور في أروقة المجلس النيابي هذه الأيام، والثاني ذاك الذي يلتف حلزونيا عن المسئوليات والسلوكيات والمفاهيم التي يمارسها بعض من قيادات وقواعد "السلطة الرابعة" تجاه المواطن البحريني.
وحتى لا يكون حديثنا كلام في الهواء، نلفت بداية إلى ما أشار إليه في مقال له الكاتب والصحافي اللبناني سعد محيو في صحيفة "الخليج الإماراتية 13/2/2005": "إلى تحذير المفكرين والفلاسفة منذ فجر التاريخ إلى أن الحياة خدعة وإن ثمة مخادعين ينفذون هذه الخدعة، وهم لذلك يصرفون المليارات من الدولارات سنويا من أجل هدف واحد هو السيطرة على عقولنا ومصادرة عواطفنا واستثارة غرائزنا وتوجيهها جمعيا إلى حيث يريدون. وما يريدونه هو أن نعيش الخدعة ثم ندفع ثمنها على أنها حقيقة". حقا تعبير بالغ الدقة، دلالته تتضح حين مقاربته بالأمرين المشار إليهما أعلاه.
لماذا؟
للتوجس الذي يعترينا عما إذا كان لايزال المواطن البحريني يعيش "الخدعة الكبرى". والقصد وراء "الخدعة" هنا، حجوم التوقعات التي فاقت حجم "الممارسة الديمقراطية محليا". صحيح ما قاله علي حرب في كتابه "العالم ومأزقه": "من كان يظن أن الديمقراطية كفيلة بحل المشكلة فسيستيقظ على كابوس في عز الظهر"، لكن الصحيح أيضا ما يشير إليه ايليا حريق في كتابه عن "الديمقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب" قائلا: "لا يمكن تصور استمرار الديمقراطية وترسيخها من دون اتباع سياسات اجتماعية تعالج الفقر والعوز، وذلك عبر طرق سياسية تقوم على الوفاق والمنافسة السياسية النزيهة والتمثيل الحر..." كما عرف الديمقراطية "على انها دعوة وبالتالي هي التزام بقيم وسلوك معين وطريقة في الحكم مرغوبة في ذاتها بغض النظر عن أصلها وفصلها، تطلب لذاتها أو ترفض لذاتها. لذلك فهي برنامج يطرح على الناس ولا مبرر له سوى الرغبة ومن يلتزم بها يرتبط بأسسها وقواعدها، والالتزام يسري على القيم المحددة وعلى قواعد إجرائية، وهي لا تعني فقط تعديل الآليات العملية كالانتخابات وفصل السلطات وتنظيم الأحزاب أو أخذ القرار بموجب حكم الأكثرية والتمثيل الشعبي وموافقة المواطنين على السياسات وحكم القانون، إنما هي التزامات بمبادئ أخلاقية ومعنوية كالعدالة والحرية والمساواة".
كل هذه التنظيرات وغيرها لا تخفى على المواطن، لا بل المطلوب منه القراءة الدقيقة والحفر ومقاربة حصيلته بالضجيج الدائر في المجلس النيابي وبدوره التشريعي والرقابي والمحاسبي الذي وصل فيه البرلمانيون طبعا إلى سور عال وبوابة ضخمة مغلقة، وإلى الدرجة التي وجد فيها النائب عبدالنبي سلمان أهمية مخاطبة جلالة الملك وذلك لعدم القدرة على التعاون مع الحكومة. بمعنى انعدام قدرة وحيلة السلطة التشريعية على محاسبة السلطة التنفيذية، ولتعطيلها للكثير من القوانين بحجة الدراسة فضلا عن اللف والدوران والتلكؤ في التعاطي مع المجلس النيابي كسلطة تشريعية. أحدهم للتو بدأ يفكر ولم يبق إلى زمن المجلس إلا عمر قصير عن انتخابات ،2006 يفكر بماذا؟ يفكر بتفعيل أدوات الضغط التي لا يعلم المواطن ما المسموح بها قانونيا وما الممنوع الذي سيساق فيه الضاغطون إلى أقسام الشرطة والتحقيق وساحات القضاء، ألم نتوقع، لقد تباينت آراؤهم بشأن "أوراق الضغط" على الحكومة واثيرت حفيظتهم عندما لوح بعضهم بالاستقالة من المجلس!
بلاوي وشياطين "الخدعة" تتقافز من بين أطراف تصريح نائب آخر عن التجاوزات بشأن الفساد المالي والإداري وما تمارسه وزارة الخارجية، إذ كان رد وزير الدولة لشئون وزارة الخارجية والإعلام مفعما للمواطن قبل النائب حينما وصف "الفساد" بـ "الهفوات"، وذلك من دون اتفاق الدولة مع الشعب على ماهية "الهفوات" وحجمها وكيفية المحاسبة عليها، هل الهفوة التي تبدأ بنهب وتجاوز "100 فلس" أم تلك ذات قيمة "الآلاف أو المليون د. ب"! "الله العالم"، لا بل لم تجد السلطة التنفيذية ما يسعفها من مأزق تهمة "الفساد" سوى استحضار الدين والاستعانة بالآية الكريمة "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" "الحجرات: 6"! المضحك في هذا المشهد الدرامي ان بعض نواب الشعب المنتخبين يمضون الوقت اختلافا بشأن "نقطة النظام" ومن سيحسم في إدارات الجلسات، على رغم مرور غالبيتهم بدورات تدريبية برلمانية الواحدة تلو الأخرى محليا وخارجيا كلفت المواطن الآلاف من الدنانير وإلى الآن يختلفون بشأن أسس النقابيات وأساليب الحوار وإدارته. إنها حقا لوحة سريالية ننقلها كما عرضتها علينا "السلطة الرابعة" ونقاربها سائلين عما إذا كان بعض نواب الشعب يساهمون بدور بخداع المواطن من حيث يعلمون أو لا يعلمون، ويستثيرون غرائزه ويدفعون أثمان الخديعة له، وخصوصا عند ترديد أحدهم "بأننا تعدينا والمواطن مرحلة الصبر ووصلنا إلى مرحلة الإنجاز أو الحصاد، وما علينا سوى تذوق الثمار... الخ". بقي أن نعرف لماذا لم يتجاسروا إلى الآن على فتح الملف الدستوري كي يحلوا لنا الألغاز من وراء تأكيد السلطة التنفيذية من أن "الدستور يمنح الحكومة حق رفض أو قبول المقترحات من الرغبات"، وهذا ما يثير الأسئلة الآتية: أين ثوابت الديمقراطية الراسخة في الضمير الجمعي والمتوافق عليها مع الشعب؟ أين المحاسبة والاستجواب والمراقبة... أين وكيف، أم أن سلطة الحكومة لاتزال مطلقة بحسب ما اعتادت عليه ورضعته طيلة عمرها المديد؟
الأمر الثاني اللافت، يتخفى بين السلوكيات والمفاهيم التي دأب عليها بعض متصدري "السلطة الرابعة" تجاه المواطن البحريني وقضاياه، فهم تجاه الشأن الدستوري قد شمروا وسنوا رؤوس أقلامهم كما يسن المحارب المغوار سيفه استعدادا لخوض المعارك، تارة يتندرون على المعارضة ومؤتمرها الدستوري، ويستميتون لدعوتها للمشاركة في الانتخابات المقبلة، وأخرى يقيمون ما يجري ويتوصلون إلى نتائج ترضيهم وتريحهم وتملأ جيوبهم، هم في واد والآخرون في واد بعيد، بحسن نية أو بسوئها النتيجة سيان، استعداء لعامة الناس، وانتقاص لقضايا وحقوق المواطن ومصالحه، ومن نماذجها ما أشار إليه أحدهم معلقا على عقد المؤتمر الدستوري: إلى أنه عقد دون ضجة إعلامية واستنتج بأن في هذا تعبير عن الرجوع إلى العمل السياسي الذي اقتصر على تحقيق مكاسب إعلامية فقط، وإغفال الخلاف بشأن المسألة الدستورية وإن هذا هو إشكال من الإشكالات التي وقع فيها التحالف الرباعي...
الخ، السؤال: رجوع عن ماذا ولماذا؟ طبعا، أغفل هذا التحليل الإشارة إلى عوامل أساسية أثرت في واقع المسألة الدستورية ومنها، إن الوزير المفاوض رسميا باسم الحكومة، يفتح ويقفل صنابر المفاوضات بمزاجية، ضاربا بعرض الحائط جميع الاتفاقات التي تمت بينه وبين ممثلي المعارضة المفاوضين معه. يقولون للوزير أزمة دستورية، يرد عليهم عبر الصحافة إنه جاء ليقنعهم بالمشاركة في انتخابات .2006 تماما حوار طرشان! التحليل الصحافي نفسه، لم يستذكر ما حدث من تهديدات للمعارضة حينما طرحت العريضة الشعبية المطالبة بالإصلاح الدستوري، فضلا عن إغفاله لمراوغة وتهديد الوزير لقوى المعارضة من مغبة طرح العريضة شعبيا وإجبارهم على اقتصارها على أعضاء الجمعيات الأربع وإلا سيقفل مقار جمعياتهم، على رغم ذلك، فالأقلام لا تستذكر إلا ما يراد استذكاره، لا يحللون خطورة وتداعيات الموقف من رفض الديوان الملكي تسلم العريضة، لا يقاربونها مع نموذج التجربة المغربية مثلا، للاستفادة من نتائج العلاقة والحوار المباشر ما بين المعارضة والحكم، فقط يتوقفون طويلا ويشمتون من اختلاف الرأي بين الحاضرين في المؤتمر الدستوري وجدلهم الذي يعد ظاهرة صحية وطبيعية للممارسة الديمقراطية لدى المجتمعات المتحضرة، تفتقدها الحكومة عند تعاطيها مع المعارضة. بدوره قلم آخر صرح نيابة عن شخصية وطنية معروفة أثناء تغطيته الصحافية لفعاليات المؤتمر الدستوري وشوش بتصريحه الرأي العام عن تلك الشخصية وما يتعلق بموقفها ورأيها في المسألة الدستورية، علاوة عن تأكيده خبر حضور عضو مجلس الشورى المغربي الممنوع من المشاركة بفعاليات المؤتمر بقرار من وزيرة الشئون الاجتماعية، الخبران بلا أدنى شك غير صحيحين، صاحب التغطية وقع باسمه خبر النشر ولم يكلف نفسه عناء الحضور للمؤتمر ولا تحرى الدقة ولا يحزنون، إنما شغل أدواته الرقابية على اللجنة التحضيرية للمؤتمر الدستوري لإثبات أنها لم تتمكن من تنفيذ توصية واحدة من الإحدى عشرة للمؤتمر الأول، فضلا عن خطابه الحكومي أكثر من الحكومة وقتما هاجم اللجنة وحاسب المعارضة على فكرة مناقشة الشأن الدستوري الداخلي مع أطراف خارجية.
هل من دروس نستوعبها مع المواطنين من إشكالات السلطة التشريعية والسلوك العبثي للسلطة الرابعة؟ على الأرجح إن الإجابة "بنعم" أو "لا"، تكمن في تحليل إلى انياسيو رامون في مقال له عن "السلطة الخامسة"، والذي يذكرنا فيه: "من أن "السلطة الرابعة" كانت ملجأ المواطنين في وجه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وخصوصا عند ارتكابها التجاوزات الخطيرة، وأنه لطالما اعتبر الصحافيون ووسائل الإعلام ان من واجبهم التصدي لخرق الحقوق وكثيرا ما دفعوا الثمن غاليا، لقد كانت صوت من لا صوت لهم، ويضيف بيد ان نموذجنا الآن من "السلطة الرابعة" فاقدة لمضمونها وشيئا فشيئا وظيفتها الأساسية كسلطة مضادة لماذا؟: الأسباب كثيرة، تتراوح ما بين تسارع وتيرة العولمة الليبرالية، والمجابهة ما بين الحميم والجماعي والأنانية والتضامن. وسائل الإعلام تتعرض لعدوى التسمم بالأكاذيب والتلوث بالشائعات والتشويه والتحريف والتلاعب أنه إعلام يسمم الأفكار ويلوث الأدمغة ويتلاعب بنا ويفسدنا محاولا أن يضخ في وعينا أفكارا ليست أفكارنا لذلك لابد من إزالة الأوساخ العالقة من "مد الأكاذيب الأسود"".
وعليه ألف باء درس هذه اللحظة سيعتمد على قدرتنا في الكشف عن أغطية الزيف والوهم القابع في الزوابع المثارة في المجلس النيابي الفاقد للقدرة على التشريع، وما يتبعها من بعض الكتابات الملوثة بالأكاذيب والتحريف والتلاعب بالألفاظ والمفاهيم، إضافة لعجزها هي الأخرى عن أن تكون عيون الناس الساهرة والمراقبة للفساد والاختلالات في أداء أجهزة السلطة التنفيذية ودوائرها، والتي كما يبدو تجهد عملا بكل طاقاتها، قضها وقضيضها ضد مصالح العامة من الناس، أما بأساليب الوعود وبث الآمال والأوهام أو بالأخبار الكاذبة، والتحليلات اللزجة، المتخبطة في طرق الهدم لا البناء، جميعها تساهم بصورة أو أخرى في فقد "السلطة التشريعية" لهويتها وكيانها و"السلطة الرابعة" لصدقيتها، إنهم جميعا يساهمون في استمرار "الخدعة" وحلقاتها، وهذا ما يجعل من مهمات "السلطة الخامسة" صعبة ولكنها ليست مستحيلة. ولكن من هي "السلطة الخامسة" التي يعول عليها؟
كاتبة بحرينية
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 902 - الأربعاء 23 فبراير 2005م الموافق 14 محرم 1426هـ