في الأسبوع الأخير من نوفمبر/ تشرين الثاني أنيط «ملف الإرهاب» بالمستشار السابق للأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر. وللرجل صلاته الحميمة بقيادات كثيرة في أنظمة الشرق الأوسط، ومازال مكتبه الاستشاري مصدر الكثير من التقارير والتحليلات الرائجة التسويق والباهظة السعر، على رغم أن معلوماتها لا تتجاوز كثيراً ما هو مطروح في شبكة الإنترنت. ولكن كما كان يقول آلان دالاس أحد أهم مؤسسي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إي) وشقيق وزير الخارجية الأميركية السابق موستر دالاس في عهد الرئيس الجنرال داويت آيزنهاور، فإن المعلومات ليست هي المشكلة دائماً، فما تملكه الاستخبارات من معلومات يتوافر ما نسبته تسعين في المئة (90٪) تقريباً لمعظم الصحافيين المختصين ووكالات الأنباء، ولكن المشكلة هي في «تحليل» هذه المعلومات واستخلاص نتائجها.
وأضيف ـ من عندي ـ إلى قول آلان دالاس أن المشكلة هي أيضاً في «موجهات التحليلات» نفسها وفي «الغايات» التي تُطوع بموجبها المعلومات، فماذا لو تولى كيسنجر ملف الإرهاب في حقبة الستينات حين كانت القارة الإفريقية بأسرها تصنع مستقبلها السياسي في ظل حركات التحرير ورموزها من كوامي نكروما وإلى موديبوكيتا، الأول في غانا والثاني في مالي ثم لوممبا في الكونغو. وإلى جواره جومو كنياتا في كينيا ثم حركات التحرير التي اشتعلت بعد ذلك في «أرتريا» ضد النظام الامبراطوري الأثيوبي، وفي أنغولا وموزمبيق ضد البرتغال، وفي جنوب إفريقيا ضد النظام الاستيطاني العنصري الأبيض، وامتداداً للكفاح الوطني الإفريقي ضد العنصرية البيضاء في الرودوسيتين وهما الآن زامبيا وزيمبابوي؟
أتساءل، لأننا جميعاً كنا «إرهابيين» وعبر إرهابيتنا تلك أصبحنا الآن قادة شرعيين، لنا دولنا وأعلامنا وعضويتنا في الأمم المتحدة ولدينا منظماتنا الإقليمية المعترف بها دولياً.
قتلنا وفجّرنا وسرقنا حتى المصارف وسطونا على بعض الشركات لتمويل عملياتنا وإرسال وفودنا لتجوب العالم وتعلن قضايانا، وزوّرنا جوازات السفر والعملات، فرصيدنا في هذا المجال تحسدنا عليه كبريات عصابات المافيا، غير أننا الآن «شرعيون» وقد استقبلنا بترحاب جم مستشاري الأمن القومي الأميركي كافة، لدى زيارتهم لعواصمنا «المستقلة»، وتبادلنا معهم «الانخاب».
المثال الأرتري
أرتريا التي حررت عاصمتها، أسمرا، عسكرياً في العام 1991 ثم أعلنت استقلالها بعد استفتاء شعبي برقابة دولية العام 1993، عاشت ثلاثين سنة من حرب التحرير التي انطلقت مطلع سبتمبر/ أيلول 1961. فقدت خمسة وستين ألف شهيد ولديها من المفقودين حوالي عشرين ألفا، ومن اللاجئين ما يزيد على ثلاثة أرباع المليون وذلك من أصل عدد لا يتجاوز الملايين الثلاثة.
طوال سنوات الثورة الأولى (1961 ـ 1966) لم يفكر أي أرتري في أية عملية «إرهابية»، كان السلوك الثوري «مهذباً جداً» وتقتصر عملياته الكفاحية على مواجهة قوات الاحتلال الأثيوبي داخل «الميدان».
غير أن «بعضاً» من الأرتريين لجأ إلى مواصفات «العمليات الإرهابية» في الفترة ما بين 1967 وإلى 1969، ففجر الطائرات الأثيوبية في مطارات «فرانكفورت» و«كراتشي» و«عدن»، وزوّر العملات وجوازات السفر، وتعاون مع «أيلول الأسود» في «تايلاند» ومع منظمة «أيتا» الباسكية في اسبانيا ومع «الألوية الحمراء» في إيطاليا.
«الشباب» الذين قاموا بتلك العمليات في منتهى الرقة والتهذيب، حتى إن أحدهم من الذين قاموا باختطاف الطائرة الأثيوبية إلى عدن واسمه الحركي «سينغور» أو «الشهيد الحي» ـ لكثرة ما أصيب من رصاصات اخترقت مراراً جسده النحيل في معارك التحرير داخل الميدان ـ هذا الشاب «سينغور» كاد قلبه يتفطر بعد اختطافه الطائرة حين بدأت طفلة صغيرة بالصراخ فزمجر في وجه المضيفات طالباً حلوى لها. وحين حطت الطائرة في عدن لم يقم بتفجيرها، فالغاية من الاختطاف «إعلامية بحتة» غير أن حرس المطار لم يرق لهم «عدم تفجير» الطائرة فقاموا بزخها بعدة دفعات من بنادقهم الآلية، علهم يظهرون بذلك تضامنهم مع الشعب الأرتري.
إضافة إلى تهذيب أولئك الشباب فإنهم «غير محترفين» لهذا النوع من الأعمال الإرهابية، ويبدو ذلك في الاستعدادات «اللوجستية» التي كانوا يهيئون بها أنفسهم للعمليات، فعلى متن إحدى الطائرات الأثيوبية التي أقلعت من بيروت ركب اثنان منهم بهدف اختطافها ولزم أن يكونا من ركاب «الدرجة الأولى». ولهذه الدرجة مواصفاتها من ناحية «الأناقة» ونوعية الملابس وربطة العنق وحقيبة اليد وحتى الحذاء ولزوم ما يلزم.
غير أن مسئول المالية في التنظيم والمأمور بالتقشف في الصرف حفاظاً على أموال الثورة والشهداء تحجّل بشهادة هؤلاء حين اشترى لهم الملابس من سوق «سرسق الشعبي» في بيروت ولزوم ما يلزم كافة وأبقى عليهم ساعات اليد الرخيصة جداً، فانكشف أمرهم لحرس الطائرة لدى جلوسهم على مقربة من كابينة «غرفة القيادة» في الدرجة الأولى، فكل ملابسهم لم تكن تساوي «قيمة التذكرة» وهكذا تم اغتيالهم داخل الطائرة وفي مقاعدهم نفسها.
إذن، ما الذي دفع أولئك الشباب بمسلكيتهم المهذبة جداً وعدم احترافهم، إلى اقتحام مجال تلك العمليات «الإرهابية»؟
اليأس والإرهاب
قلت إن الثورة الأرترية لم تلجأ إلى العمليات الإرهابية إلا بعد العام 1967، فقد ألقت الثورة الأرترية بثقلها منذ العام 1961 لإيجاد جسور سياسية وإعلامية، دولياً وعربياً وإفريقياً وإنسانياً عبر اتصالات مكثفة وتزامناً مع عمليات عسكرية محدودة النطاق داخل أرتريا هدفها «لفت أنظار العالم». فماذا كان المطلوب منذ العام 1961؟!
أولاً: على رغم «المناشدات» الأرترية وانطلاق العمليات العسكرية داخل الميدان الأرتري منذ العام 1961 فإن الأمم المتحدة التي سبق لها أن أصدرت القرار الفيدرالي في ديسمبر/ كانون الأول 1950 لإقامة علاقات «تعاهدية» بين أرتريا وأثيوبيا إثر انسحاب إيطاليا من أرتريا في الحرب العالمية الثانية، فإن هذه الهيئة الدولية صاحبة القرار لزمت الصمت تماماً حين أقدم الامبراطور الأثيوبي هيلي سلاسي على إنزال العلم الأرتري وحل البرلمان وإلغاء الحكومة الفيدرالية الأرترية منذ العام 1958 وليعلن «إلحاق» أرتريا رسمياً بامبراطوريته العام 1962، وهكذا تم «السكوت العالمي» عن القرار رقم (390 ـ أ ـ 5).
بعد القتال المهذب والإنساني جداً والمقيّد بالأخلاق العسكرية داخل الميدان ذهب الأخ الشهيد «عثمان صالح سبي» أحد أبرز مؤسسي الثورة، إلى نيويورك منتصف العام 1964 فلم يُعن به أحد، ولم يكن قادراً على البقاء طويلاً في نيويورك لأسباب مالية، فالمبلغ المتواضع الذي كان يحمله معه جمع من بعض الأرتريين القلائل في جدة مع إقدام الأخ عثمان خيار على بيع مقهاه الشعبي، فأصبح بلا عمل ولا دخل ينتظر نتيجة الأمم المتحدة!
ذلك كان موقف أميركا والغرب الأوروبي إذ نالت أميركا بموجب تلك الصفقة «احتلال أرتريا» قاعدة التصنت في العاصمة أسمرا (كاينو استيشن).
ثانيا: الاتحاد السوفياتي ظل إلى العام 1967 صامتاً تجاه ما يجري في أرتريا ثم من بعد 1975 أنشأ علاقات وثيقة مع النظام الأثيوبي (الجنرال فغستو هايلي ماريام) ورتب حلفاً استراتيجياً شمل عدن الاشتراكية وأثيوبيا وليبيا وتحوّل إلى عمليات عسكرية هي الأعنف ضمن ما شهدته الثورة الأرترية إذ تم فيها إجلاء الثورة عن معظم مواقعها المحررة فاستحكمت في الساحل الشمالي (نقفة) ولهذا صدرت العملة الأرترية بعد الاستقلال تخليداً لهذه المدينة.
سعت الثورة الأرترية إلى «مناشدة» الاتحاد السوفياتي نهاية العام 1967 وعبر وسطاء في تشيكوسلوفاكيا من الاتحادات العالمية للعمال والطلاب والصحافيين، غير أن المبعوث السوفياتي شدد على اعتبار الامبراطور هيلي سلاسي «حليفاً أممياً» للاتحاد السوفياتي في نضاله ضد الفاشية الإيطالية في الحرب العالمية الثانية! وتناسى إرسال الامبراطور إلى قواته ضد كوريا العام 1950، وهيمنة الاقطاع والكنيسة على المجتمع الأثيوبي.
ثالثا: إفريقيا اعتبرت الثورة الأرترية «حركة انفصالية» ينطبق عليها قرار القمة الإفريقية للعام 1964 والقاضي بعدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار الأوروبي. في حين أن هذا القرار هو في حقيقته لصالح أرتريا لأن أثيوبيا هي التي ألغت هذه الحدود الموروثة عن إيطاليا مع أرتريا وقامت باحتلالها.
وتناسى الأفارقة هذا الوضع حين وافقوا على اتخاذ العاصمة الأثيوبية مقراً دائماً لمنظمة الوحدة الإفريقية العام 1961 بعد تجاوز الانقسام بين كتلتي «منروفيا» و«الدار البيضاء»، أي في العام نفسه الذي ضمت فيه أثيوبيا أرتريا.
رابعاً: مصر ـ وكانت مدخل حركات التحرير بحكم ناصريتها ـ نظرت إلى 86 في المئة من كمية وارداتها المائية التي تأتيها من المنابع الأثيوبية، إضافة إلى علاقات أقباط أثيوبيا وكنيستها الرسمية ببابوية الاسكندرية. وتنسيق «القاهرة» مع «أديس ابابا» في مختلف الشئون الإفريقية.
خامساً: عربياً لم تؤدِ المناشدات الأرتيرية طوال الفترة من 1961 إلى 1969 إلى بلورة أي تأييد عربي باستثناء ذلك الذي كان يتوسل به جامعو التبرعات الأرتريين في المساجد ولدى المحسنين العرب وبالذات في شهر رمضان الكريم.
والاستثناء الوحيد، وأكرر الوحيد، هو الموقف الإيجابي للانفصاليين في سورية قبل انقلاب البعث عليهم العام 1963! فقد تأثرت ثلاث شخصيات عربية في القاهرة بمأساة أرتريا أو بالأحرى «مسلمي أرتريا» وهم ـ وقد رحمهم الله ـ الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، والأمير المغربي عبدالكريم الخطابي قائد «ثورة الريف» ضد اسبانيا، والضابط السوري من أنصار انقلاب أديب الشيشكلي في سورية وهو عبدالحق شحادة.
عبر هؤلاء الثلاثة تم اتصال الأخ الشهيد عثمان صالح سبي بدمشق وقيادتها «الانفصالية» فاستقبلوا «ثلاثين» شاباً أرترياً نالوا التدريب في «معسكر قطنة» وزودا الثورة بثمانين طناً من الأسلحة والذخائر وبذلك تأسست «البنية العسكرية التحتية» للثورة الأرترية.
ومن الطرائف أن المقاتلين والأسلحة وصلوا إلى أرتريا بعد قيام حكم البعث العام 1963، أي في فبراير/ شباط العام 1965 «وبطريقة خاصة جداً» أبطالها في السودان رئيس وزراء ثورة أكتوبر الشعبية العام 1964 سرالختم الخليفة، ووزير شئون الرئاسة محمد جبارة العوض، ووزير العدل الرشيد الطاهر، ومدير الخطوط السودانية يوسف بخيت من دون علم قائد الجيش السوداني اللواء محمد أمجد الخواض ووزير الخارجية عمر أحمد محجوب ووزير الداخلية كلمنت أمبورو، فلما اتضح أمر الشحنة السورية، ولكن بعد إيصالها إلى أرتريا، أنكر رئيس الوزراء علمه بها، فيما هرب المرحومان وزير العدل والرئاسة إلى «قراهم». ففي تلك الفترة بدأت الأحزاب السودانية صعودها إلى السلطة على حساب ثورة أكتوبر. وكانت على «علاقات جيدة» مع النظام الامبراطوري الأثيوبي.
أما قبل وصول الأسلحة السورية العام 1965 فقد اعتمدت الثورة على مشتريات الأسلحة من «القبائل اليمينة» وشراء الذخائر والمواد الطبية من المستودعات الحكومية السودانية في الخرطوم و«تهريب» بعضها من دمشق عبر الحقائب الدبلوماسية الصومالية إلى مطار الخرطوم، ثم تنتهي هذه المشتريات السرية والمهربات إلى مخزن مطاعم علي السيد الشعبية في الخرطوم لتعاد تعبئتها بوصفها «طحيناً» في جوالات «الذرة».
مأساة حرق القرى
واللاجئين والمنعطف
رجوعاً إلى كل النقاط السابقة، وهناك الكثير، أمطرت السماء شهباً ولهباً من الطائرات الأثيوبية، وفي الأرض من المدفعية لتجفيف البحر وخنق سمكه، فأدت سياسة الأرض المحروقة في نهاية العام 1966 إلى تشريد ما يزيد على عشرين ألف أرتري إلى سهول السودان الشرقية ثم تضاعف العدد ليصل في العام 1967 إلى ستين ألفاً حتى بلغ فيما بعد ثلاثة أرباع المليون.
الرصيد المالي للثورة في كل مكاتب دمشق وبيروت وجدة والخرطوم لا يتجاوز سبعة آلاف دولار، وحكم الديون يبلغ 21 ألف دولار، والآن كارثة اللاجئين والأرض المحروقة.
الخلاصة: العالم مازال صامتاً ولابد من تحريكه بأي ثمن فأنشأ الشهيد عثمان صالح سبي منظمة «العقاب» لتحطيم الطائرات الأثيوبية وتزوير جوازات السفر والعملات، وكان التنظيم «جبهة التحرير الأرترية» على غير علم بتلك المنظمة شأن مجلس وزراء السودان بالنسبة إلى الأسلحة السورية.
وكان الاستقطاب السري يجري عبر الأخ الشهيد محمد علي أمغرورة لكل أولئك الشباب «المهذبين» و«غير المحترفين». وكاد الاستقطاب أن يمتد في العام 1968 إلى الأخ الرئيس إسياسي أفورقي نفسه أثناء قدومه إلى دمشق في طريقه إلى الصين للتدريب على مهمات «المفوض السياسي» للثورة وذلك لإرساله ليقوم بعمليات إرهابية في إيطاليا وألمانيا، غير أن أهمية الدورة التدريبية في الصين وإلحاح الصينيين عليها أثناء ثورتهم الثقافية حالت دون تحول إسياسي إلى «إرهابي». ولكن بمعيته الآن أحد أخطر إرهابيي تلك المنظمة وهو الأخ، وهو شهيد حيّ أيضاً، علي سيد عبدالله (أبوهاشم) وزير الخارجية، فهو الذي فجر الطائرة الأثيوبية في كراتشي.
إذن، فاليأس هو الذي يدفع بالمناضلين وذوي الحقوق العادلة إلى الإرهاب وهذه العمليات الإرهابية حين تتجاوزهم «عدالة» العالم والمؤسسات الدولية.
على «عزيزنا» هنري كيسنجر الآن، وقد حُوّل إليه ملف الإرهاب أن يتعلم هذا الدرس جيداً، فالطريق لقمع الإرهاب لا يتم بعمليات مضادة، فـ «عبقرية» الإرهاب تتجاوز كل التوقعات لتمتد إلى دوائر انتخابات «الليكود» وإلى «ممباسا»، فالطريق الوحيد لقمع الإرهاب هو أن يكون النظام الدولي الجديد «عادلاً» لنصبح جميعاً شرعيين.
أما تجفيف المنابع المالية فيمكن الالتفاف حوله بتزوير العملات، وكذلك يمكن الالتفاف على تحركات العناصر بتزوير الهويات والجوازات، وإذا استحال كل شيء يمكن الاتجار حتى بالمخدرات. فالنجاح الوحيد الذي نتمنى لعزيزنا كيسنجر تحقيقه هو أن يسهم في بناء نظام دولي عادل.
العدد 90 - الأربعاء 04 ديسمبر 2002م الموافق 29 رمضان 1423هـ