احفظ راسك عند تغيير الامم. مثل عامي له دلالات مثيرة. يتم التغيير الكبير عادة عند الحوادث الكبيرة. رُسمت خريطة منطقة الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الاولى وسقوط السلطنة العثمانية. كذلك ادت الحرب العالمية الثانية، إلى تداعيات وتأثيرات جوهرية على خرائط المناطق والبلدان، لايزال العالم يعاني من آثارها حتى الآن. ويكفي ان نذكر الأزمتين، الكورية والتايوانية، وما يمكن ان تؤثرا مستقبلا على منطقة الشرق الاقصى إذا لم توجد لهما الحلول السياسية والسلمية.
هل حادث 11 سبتمبر/ أيلول هو من الحوادث الكبرى؟
بحد ذاته، لا يشكل 11 سبتمبر حدثا استثنائيا. فهو عمل وصف بالارهابي وأدى إلى مقتل اكثر من 3000. ففي اية حرب صغيرة قد يموت اكثر من ذلك بكثير.
فعلى سبيل المثال ادّت الحرب اللبنانية إلى مقتل اكثر من 150000 قتيل. وفي حروب الابادة القبائلية الاثنية التي وقعت في افريقيا مات اكثر من 200000 شخص. لكن ما هو الاستثنائي في ضربة 11 سبتمبر؟
في طبيعة الصراع الجديدة:
الاستثنائي في 11 سبتمبر هو في طبيعة المتخاصمين. الاول، هو دولة معترف بها من ضمن النظام العالمي. الثاني، هو عدو على غرار الشركات العابرة للقارات، لا كيان سياسيا له وغير معترف به من المنظمات العالمية التي ترعى السلام العالمي. الكيان الرسمي يريد حربا تقليدية حيث قوّته. الثاني يكمن. ليضرب ويهرب. الاول يريد سلاما واستقرارا عالميين، كي يستمر مهيمنا. الثاني، يريد الفوضى حيث ملاذه وبيئته الطبيعية. يضطر الاول إلى خوض حربه، وقيادة العالم في الوقت نفسه. الثاني، يخوض حربه من دون هوادة غير مكترث بالنظام العالمي لانه يريد تغييره والقضاء عليه. يضطر الاول إلى نشر قدراته واستنفار قدراته الوطنية، والتورط في كل بقعة مشبوهة كي يضرب. الثاني، يتربص ويستعمل وسائل الاول ليرد الصاع صاعين.
في طبيعة الوسائل:
لم تعد مفاهيم موازين القوى المعروفة تقليديا في المدرسة الواقعية سارية المفعول مع هذا الصراع الجديد. فالمعادلة الحالية تقوم على العلاقة ما بين قوي وضعيف.
معطوبية القوي تأتي من كثرة ما هو قوي. وقوة الضعيف، تأتي من مدى ضعفه. فكلما حقق الضعيف ضربة صغيرة على القوي، كان تأثيرها اكبر، لانها تكسر هيبة القوي. بينما لا يمكن للقوي الادعاء انه انتصر على عدو زئبقي، لانه سيقال ان هذا اقل ما يمكن، وإلا فما معنى القوة. في ضربة 11 سبتمبر، استعمل الضعيف وسائل القوي التي يفترض ان يستخدمها لأغراض سلمية، فضربه بها محققا اهم مفاجأة استراتيجية لاميركا بعد كارثة بيرل هابور 1941.
اتت الضربة واميركا القوة الوحيدة في العالم، وذلك بعد سقوط «الدب السوفياتي». كذلك اتت واميركا «منفلشة» عسكريا واقتصاديا إلى الدرجة القصوى، في الوقت الذي لم يدرك أي مسئول اميركي درجة المعطوبية المرتفعة للداخل الاميركي، في شقيها الامني والسياسي. الأمني، من خلال الحوادث الارهابية المتعددة في الداخل (على رأسها التفجير الاول لبرجي التجارة العالمي). السياسي، من خلال طريقة وصول الرئيس جورج بوش إلى الرئاسة بواسطة قرار من المحكمة العليا.
بعد انتخابه رئيسا لاميركا، اراد بوش إعادة لمِّ شمل العسكر الاميركي المنتشر في العالم. اراد الانسحاب من مشكلات العالم. اراد ضرب الاتفاقات الدولية التي يقوم عليها النظام العالمي، وعلى رأسها معاهدة الاي. بي. ام مع روسيا. صنف ايضا الصين منافسا استراتيجيا، بدل ان تكون حليفا. وحدد موقفه مسبقا من القضية الفلسطينية، عندما قال علنا ان مشكلته الاساسية هي في انه «لا يستهوي هذا الشخص» (أي الرئيس ياسر عرفات).
اتت الضربة ايضا واميركا خارجة من معركة إظهار قواها العسكرية في حربي الخليج الثانية وكوسوفو. في تلك الحربين، اظهرت اميركا للعالم كيف ستكون عليه الحروب المستقبلية، في شكلها ووسائلها. وقد ادى الامر إلى زرع الرعب في قلوب المنافسين، وخصوصا القوى الكبرى. اصبح السؤال، في كيفية منافسة «الديناصور الاميركي» والجيب فارغ كذلك الامر في ظل غياب تكنولوجية متقدمة في المجال العسكري؟ انطلاقا من هذا كله، كيف يرضى «الديناصور» ان يضرب من قبل «قزم» عسكري في عقر داره؟ وكيف يرضى ان يتحدى احد سلطته علنا، ويجعل من قوته الردعية نمرا من ورق على غرار ما قاله الزعيم الصيني ماو تسي تونغ؟ من هنا اطلقت عليه صفة «الديناصور الجريح الموجود في محل بيع الخزف» فحذار لمن يخالف، او يعاند لان الاوزان متفاوتة جدا.
صدام بعد الأفغان:
في ظل هذا الوضع، وبعد الحرب الافغانية، أعلن الرئيس بوش ضرورة تغيير النظام في العراق، معلنا الحرب على الرئيس صدام حسين. بشر الرئيس بوش العالم العربي، والاسلامي ايضا، بأن الديمقراطية آتية إلى العراق كخطوة اولى، ومن ثم سوف تنتشر في كل انحاء العالم العربي. خصص لذلك اموالا للحملات الدعائية ولإقامة الندوات وتقديم المساعدات. كانت إذاعة «سَوى» اول الغيث.
بعد اعلان الحرب على العراق دب الهلع الجيو - سياسي بين دول المنطقة، وخصوصا الدول المحيطة بالعراق. فلكل منها هواجسه من الضربة العسكرية. ولكل منها، مخاوفه من مرحلة ما بعد الضربة - فماذا عن هذه الدول؟
تداعيات الضربة:
العراق: يخاف العراق على نفسه من التقسيم. كذلك يخاف على دوره في مرحلة ما بعد الضربة، وعما يمكن ان تنتج هذه الضربة من عداوات جديدة مع جيرانه وخصوصا الدول العربية. كما يقلق العراق ضعف دوره الاقليمي في المرحلة المقبلة، وهو البلد الوحيد الذي شارك في كل حروب العرب ضد إسرائيل. ويقلق ايضا على مصير ثروته النفطية في ظل نظام جديد مركب من قبل اميركا. لكن القلق الاكبر يتمثل في الثمن الباهظ الذي من الممكن ان يدفعه الشعب العراقي نتيجة اعلان الحرب عليه. والسؤال يبقى عمن سيعيد بناء ما دُمّرر، وخصوصا ان الحديث المتداول الآن يشير إلى ان العراق قادر على بناء نفسه بنفسه، الامر الذي سيؤخر كثيرا مسيرة البناء والتنمية وهي اصلا ليست موجودة بعد حصار دام اكثر من عقد من الزمن.
مصر: في المبدأ، تبدو مصر مهمشة عن موضوع العراق ليقتصر دورها على الحرب على الارهاب، وعلى البقاء ملتزمة بالسلم مع اسرائيل. لكن القلق من ضرب العراق يتمثل في خوف القاهرة من الدور الذي ستلعبه بعد مرحلة التغيير الكبرى في المنطقة. فهي دولة مهمة لانها مسالمة مع اسرائيل. من دونها لا حرب في المنطقة.
وهي تتلقى المساعدات الاقتصادية والعسكرية بسبب هذا الدور السياسي. لذلك ستتغير الصورة بعد ضرب العراق. لكن كيف؟ ستهدأ مخاوف اسرائيل من الخطر العراقي، وخصوصا في بعده غير التقليدي. وستسيطر اميركا تقريبا على كل المنطقة، بعد تصفية آخر نظام مارق. انطلاقا من هذا الوضع، لا تبدو امكانية خروج مصر من المعادلة السلمية مع اسرائيل سهلة وهينة، وسيغدو موضوع الخروج من السلم مكلفا لمصر اكثر من البقاء فيه وخصوصا في شق المساعدات. حتى ان التهديد به سيصبح من دون معنى. وستصبح مصر دولة عربية اساسية في الاستراتيجية الاميركية الاقليمية، ولكنها ليست مركز ثقل هذه الاستراتيجية، وذلك بسبب أخذ اميركا عاتق التنفيذ على كاهلها عملانيا على الارض. وذلك بالطبع بعد التنسيق مع اسرائيل. وقد يمكن القول حاليا ان هناك محاولة لدفع مصر نحو البعد الافريقي وعزلها عن البعد العربي. تمثل هذا الامر في ما يجري على الساحة السودانية، والحملة الاميركية الاخيرة على مصر.
السعودية: تشعر السعودية بما يعد لها من خلال السعي في اميركا لمسخ صورتها. فهي الدولة، كما يردد الاعلام الاميركي - الصهيوني التي ترعى وتمول الارهاب وتمده بالمقاتلين. وبحسب الباحث الفرنسي في مؤسسة «اند لوران موراويك» السعودية هي العدو الأول لاميركا ولا بد من تأديبها عبر احتلال آبار نفطها. كذلك تتهم السعودية بأنها لا تحترم حقوق الانسان، وأن مناهجها الدراسية تعدّ بطريقة غير مباشرة الارهابيين. وتسوق الحقد ضد كل ما هو غربي وخصوصا الاميركي. تقلق السعودية من فقدان وزنها وحرية حركتها في مجال قدرتها النفطية. فاحتياطها النفطي (الاكبر في العالم حتى الآن) والمقدر بـ 262 مليار برميل قد يصبح تحت سيطرة الولايات المتحدة المباشرة. فبعد سيطرة اميركا على ثاني احتياط نفطي (العراق) والمقدر بـ 113 مليار برميل، ستعمد اميركا إلى التحكم في الاوبيك وبالتالي في اسعار النفط. كل ذلك في ظل ظهور «الجبار النفطي» الروسي الجديد. وسيطرة اميركا في الوقت نفسه على نفظ بحر قزوين قد تقلق المملكة من التدخل الأميركي المباشر في شئونها الداخلية وخصوصا في مجال الامن الداخلي. وقد تقلق من محاولة التأثير على المنهج الاسلامي المعتمد خصوصا في الشق التعليمي. ومن يدري قد يتم السعي لفرض نظام سياسي جديد لم تعهده المملكة.
باختصار، قد يترجم الخطاب العدائي الاميركي ضد السعودية إلى واقع أليم لا تريده المملكة.
تركيا: تبدو تركيا محتارة بين القبول بالذهاب إلى الحرب، وبين ممانعتها. وقد يحتار المراقب ايضا في تصنيف تركيا. فهي تارة مع الحرب، وتارة اخرى تفاوض العراق لعقد اتفاقات اقتصادية. لكن الاكيد هو انها ستذهب إلى الحرب في حال قرّر «العم سام» ذلك. ولا تندرج الاتفاقات الاقتصادية في خانة حفظ الحق لمرحلة ما بعد الضربة، كأن تكون التعويضات اكبر من اميركا ومن النظام العراقي الجديد. تقلق تركيا من قيام دولة كردية الأمر الذي يهدد وحدة اراضيها. لا بل هي تسعى إلى «استعادة» ارض واسعة من العراق وذلك بحسب تصريح وزير الدفاع التركي صباح الدين تشاكمك اوغلو وكشفه علانية عن مخطط احتلال كردستان العراق وضمه لتركيا بحجة ان شمال العراق نزع عنوة من تركيا اثناء خوضها حرب تحرير ضد القوى الغربية في مطلع العشرينات من القرن الماضي على أنقاض السلطنة العثمانية. وقالت المصادر ان مفاوضات سرية جرت بين قادة الجيش التركي وبعض ممثلين من وزارة الدفاع الاميركية (البنتاجون) استمرت عدة أيام توصلت إلى تصور كامل للمشاركة التركية التي ستكون بديلا عن الدول العربية... واكد العسكر استعدادهم للمشاركة الكاملة مقابل موافقة اميركية على ضم كردستان العراق وخصوصا كركوك والموصل (مدينتين غنيتين بالنفط) إلى تركيا. لكن هذا الامر قد يخلق وضعا غير مستقر لتركيا على المدى البعيد، وخصوصا مع جيرانها.
ايران: على رغم دعمها المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان، وتعهدها بمقاتلة اسرائيل، تبدو ايران في وضع حرج على الصعيد الاقليمي الخاص بها. فهي في النهاية دولة اقليمية خليجية - آسيوية كبرى، لها اهدافها القومية، كما لها هواجسها الاستراتيجية. وهي حتما ستبتعد عن المعضلة العربية تدريجيا كلما كبر الضغط الاقليمي عليها، وخصوصا انها بعيدة في الاصل جغرافيا عن فلسطين. ولا يتوافر حاليا لايران سوى مخرج واحد جغرافي (صديق)، هو الحدود مع العراق. فيما عدا ذلك، هي مطوقة ومحتواة من كل الجهات. فضرب العراق قد يُطبق عليها نهائيا. وقد يكون دورها مقبلا ايضا، لانها على لائحتي الارهاب ومحور الشر الاميركيتين في الوقت نفسه.
وهي ايضا متهمة بدعم «الانتحاريين» الفلسطينيين، وحزب الله في جنوب لبنان. تقلق ايران ايضا من عدم امكان حصولها على حصتها من نفط بحر قزوين. فبين السندان الاميركي في افغانستان، والمطرقة الروسية على ضفاف هذا البحر، قد تخرج ايران بحصة قليلة جدا، وخصوصا ان وضع روسيا تحسن حاليا، وهي مصممة على إبعاد إيران عن مصدر هذه الثروة. وقد يؤثر ضرب العراق على استكمال المشروع الإيراني في الحصول على البرنامج النووي.
سورية: تبدو سورية المتضرّر الأكبر من التغيير العراقي المرتقب. ويعود الأمر إلى مواقفها وأهدافها القومية الاستراتيجية، والتناقض الجوهري بين هذه المواقف وما يُعدّ للمنطقة. فإن هي سارت في الحملة تكون قد تنكّرت لمفاهيمها. وإن هي مانعت قد تدفع ثمنا غير قادرة عليه الآن. ويبدو أيضا أن كل ماجرى ويجري بعد 11 سبتمبر، يعاكس الموقف السوري ويضعفه وخصوصا في الجانب الإقليمي. تقلق سورية من خسارة عمقها الاستراتيجي في حال ضرب العراق. فبعد الضربة قد تصبح سورية معزولة ومطوقة من كل الجهات، ومن هنا تأتي أهمية البُعد اللبناني. في حال قُسّم العراق، واستولت تركيا على كردستان العراق، قد يعني هذا الأمر أنها أصبحت بين السندان الاسرائيلي والمطرقة التركية. فالأوضاع متشابهة بين الاثنين. في الجنوب السوري، تحتل إسرائيل الجولان، وفي الشمال تحتل تركيا لواء اسكندرون، والاثنان حليفان حتى الآن (تركيا + إسرائيل)، هذا عدا عن تحكّم تركيا في الأمن المائي السوري. كذلك الأمر بالنسبة إلى سورية فهي مدرجة على لائحة الدول الداعمة للإرهاب. وهي أضيفت إلى ملحق الدول التي تسعى للحصول على أسلحة الدمار الشامل. ومن يدري، فقد تكون على لائحة الدول المنوي ضربها بعد العراق، من قبل الأميركيين أو من قبل حليفهم إسرائيل. ويبدو أيضا القلق السوري من ضرب العراق في عدم وضوح الرؤية لمرحلة ما بعد الضربة. فما هو دور سورية الإقليمي؟ وكيف ستكون عليه العملية السلمية؟ وما هو مصير الجولان المحتل، في ظل التعنت الإسرائيلي تجاهه؟
في الختام، وفي ظل القلق الإقليمي من ضرب العراق، لا يبدو أن للقوى الصغرى الإقليمية خيارات واسعة سوى الانتظار، واستخدام العقلانية من خلال اعتماد استراتيجية تهدف إلى تقليل الخسائر إلى الحدّ الأدنى، لأن الخسارة واقعة في كل الأحوال. هل هذا ممكن؟
بالطبع. فلننتظر..
العدد 9 - السبت 14 سبتمبر 2002م الموافق 07 رجب 1423هـ