راودني التفاؤل "وقليلا ما يفعل" حين تلقيت دعوة من الأمم المتحدة، لحضور مؤتمر عن إدارة الحكم الرشيد في البلاد العربية. .. فهذه بادرة طيبة في أوقات تعيسة، يتلكأ فيها الإصلاح الحقيقي، وتزدحم فيها المنغصات والاحباطات، وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بالحكم الرشيد والإصلاح الديمقراطي الناجز ومحاربة الفساد ومقاومة الاستبداد.
وعلى رغم اعتذاراتي المتكررة عن عدم المشاركة في مؤتمرات وندوات هاطلة كأمطار الشتاء، إلا أنني قررت في هذه المرة الاستجابة للدعوة الكريمة هذه، فسافرت في الأسبوع الماضي، وفي ذهني ووجداني آمال عظام ورؤى حالمة، تطلعا إلى بداية جادة وانطلاقة عملية لإصلاح جاد طال انتظاره، لا يأتي هذه المرة من الولايات المتحدة مباشرة، لكنه قد يأتي من الأمم المتحدة... لعل وعسى! على ساحل البحر الميت في الاردن الشقيق، أكثر مناطق العالم انخفاضا، انعقد المؤتمر الموعود بمشاركة عربية دولية، ونظمه البرنامج الانمائي للأمم المتحدة، والمنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي والتنمية، والمملكة الاردنية، وحضرته وفود عربية كثيرة، مثلت بعض الحكومات العربية من ناحية، وبعض منظمات المجتمع المدني والإعلام من ناحية أخرى، وكان المستهدف اطلاق "مبادرة عربية للإدارة الرشيدة لخدمة التنمية في البلاد العربية".
وبداية يذكر ان هذا المؤتمر هو الثاني من نوعه، بعد أن استضافت مدينة اسطنبول التركية، المؤتمر الأول في باريس من العام ،2004 وفيه جرت حوارات جادة عن ضرورات الإصلاح الرشيد للحكم غير الرشيد السائد في الدول العربية، التي أصبحت لأسباب معلومة في ذيل دول العالم من حيث عنصرا التقدم والارتقاء، الحكم الديمقراطي والتنمية الإنسانية الشاملة، ففضلا عن سيادة مظاهر الاستبداد والانفراد بالحكم وتقييد الحريات العامة وانتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة حرية الصحافة والرأي والتعبير، فإن مجموع الناتج القومي لكل الدول العربية غنيها وفقيرها كبيرها وصغيرها، أقل من الناتج القومي لدولة أوروبية واحدة، من الوزن المتوسط هي إسبانيا!
هكذا تقول الحقائق وتتحدث الوقائع، بعيدا عن الدعايات الزاعقة، ومن ثم فإن أمر إصلاح أحوال هذه الدول ودفعها للتقدم في مجالي الحكم الديمقراطي والتنمية الشاملة، لم يعد قاصرا على اهتمام الشعوب العربية وحدها، الفقيرة المقهورة، ولكن الاهتمام أصبح عالميا مصطحبا معه القلق العميق من جراء تردي أوضاع هذه الشعوب وتخلفها الواضح، تحت ضغوط داخلية وخارجية، اقليمية ودولية، من احتدام الازمات الاقتصادية والاجتماعية التي زادت مساحات الفقر ومعاناة الفقراء وصولا لاستنزاف طاقات الأمة في الحروب والصراعات المسلحة، من احتلال فلسطين إلى غزو العراق، ومن تمزيق السودان إلى هيمنة القواعد والتسهيلات العسكرية والأساطيل الأجنبية.
انعقد مؤتمر البحر الميت كذلك في ظلال حوادث هاجمة، سيطرت بشكل من الأشكال على مناقشاته، وخصوصا من جانب ممثلي المجتمع المدني والإعلام وهي:
- كان مؤتمر شرم الشيخ الرباعي الذي جمع مصر والاردن وفلسطين و"إسرائيل"، هو الحدث المواكب الأبرز، لكن كالعادة جاء الانقسام حوله واضحا، فريق المتفائلين يرى فيه ضربة البداية العملية لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وفتح خريطة الطريق من جديد، والحصول على ما هو ممكن بدلا من انتظار ما هو مستحيل، وفريق المتشائمين يرى فيه مؤامرة لتصفية الانتفاضة الباسلة، ونزع أسلحة المقاومة الفلسطينية، وتجريد المفاوض العربي من آخر أوراقه المسلحة بالفداء والاستشهاد، لكي يستسلم للاستعمار الاسرائيلي الاميركي.
- تردد في جوانب المؤتمر وحوارات المؤتمرين، تلك النشاطات والمظاهرات والتحركات الشعبية المتصاعدة، في أكثر من عاصمة عربية، تلح على ضرورة تحقيق مطالبها الوطنية، بإصلاح ديمقراطي حقيقي، يكفل الخبز والحرية، يحقق الديمقراطية مع العدل الاجتماعي، استباقا لمخاطر التدخل الأجنبي.
ولا جدال في أن هذه دعوات صحيحة تتكاثر في وقتها وزمانها ومكانها، وتلقى تأييدا واسعا، ليس فقط في الداخل، ولكن أيضا من الخارج، وخصوصا من جانب "الخبراء الأجانب" الذين شاركوا في المؤتمر!
- في التوقيت ذاته، كانت خطابات الرئيس الأميركي بوش، في واشنطن، ووزيرة خارجيته كوندليزا رايس في جولتها بالمنطقة واوروبا، تدق الاسماع بقوة وتشد الابصار جميعا... كلاهما استخدم ألفاظا قاسية وعبارات شديدة وتحذيرات غليظة موجهة للعرب عموما... عليكم بالإصلاح الآن وفورا وإلا...
وسط تهجمات المثقفين، وتطلعات المختصين الراغبين في العبور الآمن ببلادهم من برزخ هذه الضغوط والأزمات، جرت وقائع مؤتمر كان هدفه الأصلي وضع مبادرة للإصلاح من أجل حكم رشيد، لكن النهايات بنتائجها لم تكن كذلك، وهو ما جعل المتشائمين أكثر تشاؤما.
كانت المفاجأة الرئيسية الأولى التي صدمتني مع الكثيرين، أن عنوان المؤتمر هو "الإدارة الرشيدة"، ولم يعد كما كما نتصور "الحكم الرشيد" وهناك فروق شاسعة بين المعنيين... فمن شدة الحساسية البيروقراطية وهلع الحكومات الرافضة للتغيير المعاندة للتطور، تمكنت وفودها الرسمية، من تحويل هدف الإصلاح الشامل لنظم الحكم، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وهو - كما ترون - هدف كبير، إلى هدف صغير هو إصلاح الإدارة...
وتم مبكرا احباط أية محاولة للرجوع إلى الأصل والارتكاز على الهدف الأساسي "الإصلاح طلبا للحكم الرشيد"، وحذفت من مسودة المبادرة ومن وثائق المؤتمر، كل ما يشير إلى نظم الحكم، أو اطلاق الحريات، أو تداول السلطة، أو ضمانات حرية الرأي والتعبير وكل حقوق الإنسان، وخصوصا حقه في التنمية الشاملة والمستدامة، حقه في الخبز والعدل والقضاء المستقل والغد الآمن والمستقبل المبهج، حقه في المواطنة وحرية العقيدة، وحرية العمل والتنقل والمشاركة والانتخاب وتبوء مقاليد السلطة على كل المستويات، من دون تفرقة أو تمييز.
فهذه في رأينا وفي مفهوم الجميع "عدا الحكومات المستبدة" الركائز الأساسية للحكم الرشيد، وهي لا تتحقق إلا بمشاركة متكافئة ومتوازنة، بين الدولة، وحكومتها ومؤسساتها، وبين منظمات المجتمع المدني الكثيرة، في ظل رقابة شعبية مزدوجة، من البرلمانات الممثلة للشعب والمنتخبة بنزاهة وديمقراطية، ومن الصحافة ووسائل الإعلام الحرة الممثلة للرأي العام.
لكن كل ذلك غاب عن المؤتمر، الذي استغرق على مدى يوم كامل في القاء بيانات حكومية صارمة، تقطع بأن الأحوال على ما يرام، وأن كل شيء تمام التمام، وأن الإصلاح قد حدث، وأن الحكم الرشيد إذا هو القائم فعلا، ما دفعني إلى السؤال العلني، إذا كان كذلك، فلماذا عقد هذا المؤتمر، ولماذا إطلاق مبادرة الإدارة الرشيدة المعدة سلفا، والتي ادخلت عليها الحكومات تعديلات جديدة قبل اعلانها بساعات، لتؤكد اختصارها وبترها، في عبارات عامة، تلف وتدور حول الإدارة بمعناها البيروقراطي، من نوع ضرورة التطوير الإداري والمالي، وتطوير الخدمة المدنية، وتحسين كفاءة المؤسسات العامة، وتبسيط الإجراءات الإدارية، واحترام مبادئ الانصاف والمساواة أمام القانون، والمشاركة بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني... الخ.
مم ... هذه هي الاجابة على سؤال مشاكس، أكدها نص إعلان المبادرة التي من أجلها انعقد هذا المؤتمر "مبادرة الإدارة الرشيدة لخدمة التنمية في البلاد العربية" الذي يقتصر على محاور ستة كمجالات للإصلاح... أنقل نصا:
1- الخدمة المدنية والنزاهة.
2- الحكومة الالكترونية وتبسيط الاجراءات الإدارية.
3- إدارة الأحوال العامة والرقابة المالية.
4- تطوير القضاء وتنفيذ الأحكام.
5- توفير الخدمات العامة والشراكة بين القطاعين العام والخاص.
6- دور المجتمع المدني ووسائل الإعلام في الإصلاح الإداري.
وعلى رغم ايماننا المطلق بأهمية هذه المحاور الستة، وبضرورة العمل الجاد على اصلاحها وتطويرها، لتسهيل الحياة الكريمة أمام المواطنين المطحونين، إلا أن هذا كله لا يحقق وحدة الإصلاح الحقيقي، ولا يقيم منفردا الحكم الرشيد، ولا يضمن الحرية والعدالة الاجتماعية، النظام الديمقراطي والعدل والمساواة التي تكفلها دولة القانون وسلطة الشعب، وفق القيم المتعارف عليها والمعايير الدولية الشائعة، بل وفق تطلعات شعوبنا المطحونة... والغريب ان توافق الهيئتان الراعيتان للمؤتمر، البرنامج الانمائي للأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على هذا المفهوم الضيق للحكم الرشيد!
بقيت اللقطة الأخيرة في هذا المؤتمر، فبينما كان ممثلو الحكومات العربية المشاركون، يعكفون على "تطهير" المبادرة والوثيقة إياها، من كل شبهة تشير من قريب أو بعيد تصريحا أو تلميحا، "لإصلاح حقيقي طلبا للحكم الرشيد"، دعا ممثلو المجتمع المدني والإعلام، لجلسة نقاش، عن دورهم في دعم وتنفيذ هذه المبادرة والوثيقة، وكان الأمر محيرا فعلا، فقد جاءوا وفي الذهن "الإصلاح الرشيد للحكم الرشيد"، لكنهم وجدوا "الإصلاح الرشيد للإدارة الرشيدة"، وكما اسلفنا هناك فروق شاسعة، ناهيك عن أن كل شيء قد تم صوغه واعداده بليل بارد مطير فوق مقر المؤتمر، قارس مثلج فوق قمم الجبال والتلال المحيطة.
هكذا خيم الطقس الثلجي البارد، على حوار يفترض ان يكون ساخنا، أو على الأقل دافئا، يضع فيه ممثلو المجتمع المدني والإعلام، بصماتهم على مبادرة الإصلاح ووثيقته، حاملة تطلعات الشعوب نحو إصلاح ديمقراطي وسياسي واقتصادي وثقافي شامل، ينقلها من حال الفقر والقهر، إلى بداية طريق الحرية والتقدم.
ومن أسف أن حاجزا عاليا بين ممثلي الحكومات وممثلي المجتمع المدني، ظل قائما حتى النهاية، مثلما ظل الفارق الشاسع متسعا، بين مبادرة للإصلاح والحكم الرشيد، ومبادرة للإدارة الرشيدة.
تعليقي الأخير كان، أننا لسنا هنا شهود زور، فهل دعينا مع ممثلي المجتمع المدني لنمارس الدردشة في الوقت الضائع، بعد ان خرج ممثلو الحكومات العربية بما يريدون، وتهربوا من طرح القضية الأصل ومناقشة الجذر الأساسي، والاحتماء بفروع سرعان ما تذبل في أضابير الإدارة البيروقراطية الشهيرة!
كل إصلاح رشيد وانتم في حكم رشيد...
خير الكلام: يقول أحمد مخيمر:
سكنت لهفتي وضاع رجائي
وانطوت رغبتي وماتت ظنوني
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ