تعتقد مصر أنها على الطريق السليم لاستعادة دورها القيادي في العالم العربي. قبل عشرة أسابيع استضافت بلاد النيل مؤتمرا دوليا بشأن العراق. وحصلت مصر على دعوة للمشاركة في المؤتمر القادم لمواصلة بحث مستقبل العراق الجديد. في شهر مارس/آذار ستستضيف القاهرة اجتماعا لوزراء خارجية الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية ودول مجموعة الثماني. قبل أيام احتفلت مصر بالنجاح الذي حققته القمة الرباعية التي جرت في شرم الشيخ وشارك فيها ملك الأردن عبدالله الثاني، والرئيس الفلسطيني الجديد محمود عباس "أبومازن" ورئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون وكان المضيف هو الرئيس المصري حسني مبارك.
الدعوة التي وجهها الرئيس المصري لعقد القمة الرباعية في منطقة البحر الأحمر واحدة من مبادرات كثيرة تسهم بها مصر منذ وقت لهدف إنعاش عملية السلام في الشرق الأوسط. بينما العلاقات غير قائمة أو مجمدة بين سائر الدول العربية و"إسرائيل" فإن الاتصالات لم تتوقف بين مصر من جهة والسلطة الفلسطينية و"إسرائيل" من جهة أخرى. وكان الرئيس مبارك قد صرح قبل وقت قصير: شارون وحده يستطيع قيادة المنطقة نحو السلام. قبل أسبوع على انعقاد قمة شرم الشيخ اتصل مبارك هاتفيا بشارون طالبا مساعدته في إنعاش جهود السلام. وكان الرئيس المصري قد تباحث قبل ذلك مع الرئيس الفلسطيني عباس بصورة خاصة بشأن القضايا الأمنية وتولي قوى الأمن الفلسطينية مهمة توفير الأمن في قطاع غزة وكيفية إقناع جميع الفصائل الفلسطينية بالالتزام بقرار وقف إطلاق النار مع "إسرائيل".
في الغضون واصل رئيس المخابرات المصرية عمر سليمان سفراته المكوكية بين القاهرة وتل أبيب ورام الله. وعهد مبارك إلى سليمان بمتابعة الملف الفلسطيني، في الوقت نفسه ورد اسم رئيس المخابرات إلى جانب اسم جمال مبارك كأبرز المرشحين لخلافة مبارك في منصب رئيس الجمهورية إنما ليس في القريب. فقد زاد احتمال أن يعيد مبارك ترشيح نفسه لولاية خامسة. ونجح سليمان بتحقيق وقف إطلاق النار وليست هذه أول مرة يفلح فيها ثم تم خرق الهدنة بين حماس والجهاد الإسلامي من جهة و"إسرائيل" من جهة أخرى. وأصر سليمان على الإسرائيليين أن يوقفوا عملياتهم العسكرية في المناطق الفلسطينية كما حصل رئيس المخابرات المصرية على وعد من شارون بأن يجري بناء خط للسكة الحديد يربط غزة بالضفة الغربية. غير أن الهدف الرئيسي للجهود التي يقوم بها سليمان هو توفير شروط انسحاب "إسرائيل" من قطاع غزة وأن يتفق الفلسطينيون فيما بينهم على تحمل مسئولية إدارة زمام الأمور بعد إتمام عملية الانسحاب. ليس هناك في الوقت الحالي دولة عربية بوسعها التأثير على القيادة الفلسطينية سوى مصر التي أقامت جنازة رسمية للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ثم باشرت بعد ذلك بتدريب وحدات من قوى الأمن الفلسطينية التي ستأخذ على عاتقها توفير الأمن في قطاع غزة. وكان سليمان قد وضع مع خبراء عسكريين بوزارة الدفاع الإسرائيلية شروطا جديدة لضمان الأمن في المناطق الحدودية بين غزة ومصر. على رغم أن اتفاق السلام المبرم في العام 1979 بين مصر و"إسرائيل" ينص على قيام دوريات الشرطة بحماية الأمن في سيناء التي تعتبر منطقة غير عسكرية، لاعتراض عمليات تهريب السلاح إلى غزة. كما تم الاتفاق على أن ينتشر جنود مصريون في سيناء قبل نهاية الشهر الجاري للتأكد من عدم استخدام الأنفاق لتهريب السلاح إلى رفح. ويتحاور الجانبان المصري والفلسطيني عن إرسال 750 جنديا مصريا لحراسة الحدود بين غزة ومصر.
هذه هي الخطوة التي تريد مصر إقناع "إسرائيل" بها وتشجيعها للبدء بالانسحاب من غزة. في الأسبوع الماضي وصل 49 ضابط شرطة فلسطينيا إلى القاهرة بعد أن وعدت مصر بتدريبهم تمهيدا لتحملهم توفير الأمن والنظام حالما ينسحب الإسرائيليون من غزة. وكانت مصر قد قدمت هذا العرض للفلسطينيين منذ زمن بعيد لكن حالت "إسرائيل" دون تنفيذه وكانت في عهد عرفات ترفض سفر الضباط الفلسطينيين إلى القاهرة. بعد وفاة عرفات تخلت "إسرائيل" عن موقفها السلبي. إلى جانب نشر جنود مصريين على الحدود مع غزة وتدريب وحدات من قوى الأمن الفلسطينية تسعى القيادة المصرية إلى تحقيق الوفاق الوطني بين جميع الفصائل الفلسطينية. وتعتزم مصر قبل نهاية الشهر الجاري استضافة مؤتمر تشارك فيه جميع الفصائل ومنها أيضا تلك النشطة خارج مناطق السلطة الفلسطينية. الهدف الذي تصبو إليه القاهرة هو تقوية موقف الرئيس عباس أمام "إسرائيل" قبل الشروع في مفاوضات ترمي لوضع حل نهائي للنزاع المزمن بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. لهذا الهدف تعمل مصر بصورة مكثفة مع سورية ويقول المصريون إنه من الأسهل كسب أعضاء حماس والجهاد الإسلامي الموجودين في المناطق الفلسطينية لجهود السلام مقارنة مع أقرانهم الموجودين في المنفى السوري. ويشير المصريون بذلك إلى فشل الهدنة رقم 2 التي تم الاتفاق عليها بوساطة مصرية. وكي لا يتم خرق الهدنة الجديدة اتصل الرئيس المصري بنظيره الرئيس السوري كما أوفد وزير الخارجية أبوالغيط إلى دمشق كما أجرى عضو المكتب السياسي بحركة حماس خالد مشعل مباحثات في القاهرة.
القمة الرباعية في شرم الشيخ والمبادرات المصرية تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يستغلها الرئيس مبارك للاستفادة منها على الصعيدين الدولي والعربي كما لها دافع يتعلق بشعبيته داخل بلده. بينما يرمي مبارك لاستعادة دور مصر القيادي في العالم العربي فإنه يرمي أيضا إلى إسكات صوت المعارضة التي تتنامى ضد رغبته في ترشيح نفسه لولاية خامسة. منذ شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي خيم ما سمي بالربيع الجديد على العلاقات بين القاهرة وتل أبيب بعد أن تم تبادل سجناء وتصريح مبارك أن شارون بوسعه القيام بدور بارز في تحقيق السلام بالشرق الأوسط. وكان مبارك صرح في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو بأن نتنياهو لا يعرف أهمية السلام إذ إنه لم يشارك في حياته في أي حرب. مبارك الذي شارك في الحرب طيارا وكان في العام 1973 قائدا لسلاح الجو المصري مثلما كان شارون جنرالا ووزير دفاع سابقا قاد غزو "إسرائيل" للبنان في العام 1982 وتوج مهمته بالسماح للميليشيات المسيحية اللبنانية تحت سمع وبصر القوات الإسرائيلية ارتكاب مجزرة في مخيمي صبرا وشاتيلا كانت نتيجتها السياسية عزله من منصبه بقرار من لجنة تحقيق برلمانية إسرائيلية.
يعرف مبارك أن العمر تقدم به ولذلك يريد أن يرتبط اسمه بسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولد مبارك في العام 1928 في قرية تدعى كفر المصيلحة تقع شمال غرب القاهرة. أوفده عبدالناصر في العام 1957 وكان ضابطا شابا إلى الاتحاد السوفياتي لتلقي العلوم العسكرية في واحدة من الأكاديميات العسكرية، شارك كطيار في حرب اليمن العام 1962 وبرز كرئيس لسلاح الجو المصري في حرب أكتوبر العام .1973 ساعده تقربه من أنور السادات ليحصل في العام 1975 على منصب نائب الرئيس. بعد اغتيال السادات في العام 1981 أصبح رئيسا وما زال حتى اليوم. قبل كل ولاية جديدة تجري عملية استفتاء ليقول المصريون نعم لمبارك أو لا. 70 مليون مصري لا يعرفون غيره رئيسا. يحتفظ مبارك لنفسه بقرار الترشح لولاية خامسة على رغم تنامي المعارضة التي تحمل شعار"كفاية" دلالة على رغبة غالبية المصريين بانتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب. في خطوة فريدة من نوعها اتصل مبارك بالتلفزيون المصري خلال حوار مفتوح وقال للشعب إنه لا يقوم بعمل سهل ويشعر أنه سجين لكنه مستعد لإعادة ترشيح نفسه إذا رغب الشعب بذلك. يعد مبارك شعبه بالاستفادة من السلام في الشرق الأوسط. عملا بالاقتراح الذي قدمته واشنطن في العام 1995 تم إنشاء ثلاث مناطق صناعية في القاهرة والاسكندرية وبور سعيد تعمل فيها شركات مصرية بإنتاج بضائع تصدر إلى السوق الاميركية من دون فرض رسوم جمركية عليها شرط أن تتعاون مع الشركات الإسرائيلية. يعد مبارك شعبه بمئات الآلاف من وظائف العمل إذا تم تعميق التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة و"إسرائيل"
العدد 896 - الخميس 17 فبراير 2005م الموافق 08 محرم 1426هـ