العدد 891 - السبت 12 فبراير 2005م الموافق 03 محرم 1426هـ

عصابات تهريب الأفراد استغلت تسهيل منح تأشيرات دخول ألمانيا لزيادة أرباحها

فيشر في ورطة

سمير عواد comments [at] alwasatnews.com

من ضمن تصورات الخضر الألمان بعالم أفضل، عالم من دون حدود، وألمانيا متعددة الثقافات. في أحد أيام شهر مايو/أيار العام 2000 دعا لودجر فولمر - الذي كان في ذلك الوقت يشغل منصب وزير الدولة بوزارة الخارجية الألمانية - إلى مؤتمر صحافي بمقر الوزارة في برلين، وهو منصب غير مؤثر في ألمانيا ولا أحد من 3065 من الدبلوماسيين الألمان العاملين في أنحاء العالم ملزما بتنفيذ أوامره. في هذا اليوم قرر فولمر أن يعلن خطوة ترمي لتسهيل منح تأشيرات الدخول للأراضي الألمانية. قبل ذلك بارك وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر الذي ينتمي لحزب الخضر أيضا ويعتبر زعيمه من دون منافس، خطوة تسهيل منح التأشيرات وأوعز إلى فولمر كي يعلن عنها للرأي العام ويبين أنها من نتاج عمل الخضر في حكومة الائتلاف الاشتراكي الأخضر. كان فولمر ينظر على الدوام بحسد إلى فيشر ويشعر بالأسف على نفسه لأنه يمسك بمنصب ثانوي حصل عليه لضمان لقمة العيش شرط ألا يقوم بحماقات. وشاهد فولمر منذ العام 1998 كيف سبقه فيشر في الصعود من سائق تاكسي وطالب فاشل في الجامعة إلى منصب نائب المستشار ووزير الخارجية وأصبح الإسرائيليون والفلسطينيون يستعينون به لفض نزاعاتهما بينما فولمر قابع في مكتب لا يهتم به أحد من العاملين في وزارة الخارجية. الآن جاء دور فولمر ليعلن عن خطوة سترتبط باسمه على رغم أنه لم يسهم حقيقة في وضع تفاصيلها وإنما عدد من المستشارين وبمباركة صديقه اللدود فيشر. بعد تقديمه ما عرف لاحقا باسم إجراءات فولمر قامت وزارة الخارجية الألمانية بإبلاغ السفارات والقنصليات العاملة في الخارج البدء بالعمل بالإجراءات الجديدة. فيما اهتم الرأي العام الألماني بالكاد لهذه الخطوة وجدت عصابات تهريب الأفراد أن السياسة الألمانية قدمت لها خدمة كبيرة ولم يعد الأمر يتطلب تهريب الأفراد عبر الحدود إلى ألمانيا عن طريق الحدود الشائكة مع التشيك وبولندا أو عبر السفن التجارية وإنما يكفي من الآن وصاعدا تقديم طلبات الحصول على تأشيرة الدخول لألمانيا ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبي الموقعة على اتفاق شنجن التي أزالت حدودها ولا يجري التدقيق في مطاراتها بهويات القادمين على متن طائرات قادمة من دول أعضاء في شنجن. وما يساعد في تسهيل وتعجيل الحصول على التأشيرة إرفاق دعوة رسمية من أحد المقيمين في ألمانيا بصورة دائمة. كان حلم الخضر على الدوام تعديل سياسة الأجانب لكن هذه السياسة يجري تقاسمها بين وزارة الداخلية المسئولة عن سياسة اللجوء والهجرة وعلى رأسها وزير الداخلية أوتو شيلي الملقب بالشريف الأسود والمتأثر بالنهج الأميركي في فرض القانون والأمن، وبين منافسه اللدود وزير الخارجية يوشكا فيشر.

وقد شق فيشر وشيلي طريقهما في العمل السياسي في حزب الخضر. فيشر سائق تاكسي وشيلي المحامي الذي دافع عن الإرهابيين الألمان في جماعة بادر ماينهوف، قبل أن انفصل شيلي عن الخضر وانضم للحزب الاشتراكي الديمقراطي. بقي ملف منح التأشيرات من مهمات وزارة الخارجية وهكذا فإن من يرغب في الحضور إلى ألمانيا تقرر السفارات الألمانية في الخارج منحه تأشيرة الدخول أو حجبها عنه. كان شيلي أول من حاول إقناع فيشر بوقف العمل بالنظام الجديد لمنح تأشيرات الدخول لألمانيا لأن هذا لا يتفق مع اتفاق شنجن التي تصر على التدقيق باستمارات التأشيرات والحصول من أصحابها على ضمانات بأنهم يستطيعون تمويل زيارتهم لألمانيا أو لسائر دول شنجن. كتب شيلي أيضا إلى فيشر مشتكيا من أنه جرى وضع النظام الجديد من دون استشارته. أمر شيلي بحفظ صورة عن هذه الرسالة في ملف عمل بقول: اللهم إني بلغت اللهم فاشهد. المستشار شرودر على بينة بالمنافسة القائمة منذ وقت بين الصديقين اللدودين شيلي وفيشر. ينوب شيلي عن الجناح اليميني في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم بينما يضمن فيشر مواصلة الائتلاف الحاكم ولهذا حصل بعد الانتخابات العام 1998 على منصب وزير الخارجية ومنصب نائب المستشار. تدخل شرودر وطلب من شيلي وقف حملته ضد فيشر. وهكذا تم إغلاق ملف القضية مبدئيا.

في العام الماضي أوقفت شرطة حرس الحدود أحد المواطنين السعوديين عند وصوله إلى مطار فرانكفورت الدولي. بيد أنه جاء وفي جواز سفره تأشيرة دخول عادية إلا أن اسمه موجود على قائمة المشتبه في انتمائهم إلى تنظيم "القاعدة". هذه القائمة موجودة في بنك المعلومات الخاص بوزارة الداخلية الألمانية. ثار غضب شيلي الذي وجد نفسه مضطرا لفتح ملف تأشيرات الدخول من جديد وبعث بكتاب عاجل إلى زميله وزير الخارجية فيما سربت وزارته معلومات لوسائل الإعلام الألمانية فكتبت مجلة "دير شبيغل" أن فيشر تجاهل تحذيرات شيلي الذي يتهم وزارة الخارجية الألمانية بغض النظر عن الإرهاب.

بعيدا عن الصراع بين فيشر وشيلي انهمك أناتولي بارغ في الاستفادة من نظام منح التأشيرات الجديد. وكان بارغ قد أتى مهاجرا لألمانيا في العام 1992 وحصل على حق الإقامة بسرعة لأنه يهودي. كانت لديه خطط كبيرة حينما وطئت قدماه أرض الغرب لكن خريج الرياضيات انتهى يعمل في الجريمة المنظمة. بعد المتاجرة بالسجائر المهربة قرر توسيع نشاطاته لتشمل تهريب الأفراد الأمر الذي مكنه من جمع ثروة معتبرة في وقت قصير.

يذكر أن عصابات المافيا اكتشفت بتدفق اللاجئين على أوروبا أنه أصبح بالإمكان جمع أموال عن طريق تهريب الأفراد تزيد قيمتها عن الأموال التي يجري الحصول عليها لقاء تهريب المخدرات والسلاح. إلى جانب تدفق الوافدين من الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا فإن أوروبا الشرقية تعتبر أهم سوق لعمليات تهريب الأفراد. لذلك نشط بارغ في العمل مع عصابات في بلده الأصلي أوكرانيا. بارغ الذي يعيش في مدينة كولون اكتشف أنه بوسعه تحويل المدمنين على الكحول والمتسكعين الذين يحملون زجاجات البيرة ويعقدون جلسات طويلة قرب محطة القطارات الرئيسية وقرب دار البلدية بوسعهم توظيف أسمائهم في توجيه دعوات لأشخاص في الخارج مقابل كل استمارة دعوة يوقعون عليها. يكفي إرفاق هذه الاستمارة بطلب الحصول إلى تأشيرة لضمان القدوم لألمانيا. وحصل أن شاهد أحد موظفي دائرة الأجانب في مدينة كولون هؤلاء وهم يعبئون استمارات حصل عليها في اليوم التالي ما دفع به لإبلاغ الدوائر الأمنية. في الغضون لم يزد عدد الوافدين من أوروبا الشرقية بسرعة صاروخية بل زادت معدلات الجريمة في ألمانيا وخصوصا نشاطات الجريمة المنظمة وتجارة البغاء. كان بارغ يحصل على 250 دولارا مقابل كل دعوة. يوم الاثنين الماضي صدرت مجلة "دير شبيغل" تحمل صورة غلاف ظهر فيها فيشر وأمامه طوابير أمام القنصلية الألمانية العامة في كييف وعبارة تقول: ضوء أخضر لتجارة الأفراد. لم يتردد فولمر، وزير الدولة السابق بوزارة الخارجية بالتأكيد أن فيشر صاحب نظام التأشيرات وليس هو. المعارضة الألمانية التي تبحث عن قضية تثيرها ضد حكومة شرودر/فيشر لتعزز فرصها بالفوز بالانتخابات العامة المقررة في الربع الأخير من العام 2006 وجدت في شخص فيشر عما تبحث عنه وتكاد لا تصدق أنه بوسعها إذا استغلت الفضيحة أن تنهي الحياة السياسية لفيشر وتوقف طموحات الخضر وتحول دون مواصلة الائتلاف الاشتراكي الأخضر عمله بعد الانتخابات العامة القادمة. يعمل فيشر بنصيحة مستشاريه علما بأنه بارع في توجيه انتقادات حادة إلى خصومه لكن فيشر صامت لأنه إذا نفى صحة الاتهامات سيواجه بالأدلة على تورط وزارته وإذا اعترف بخطئه سيسمع السؤال لماذا لم تفعل شيئا. مع تغير الأوضاع الأمنية في العالم خصوصا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول اتخذت ألمانيا إجراءات أمنية مشددة على مرحلتين بينما تستعد للبدء بتطبيق المرحلة الثالثة ثم يفتضح أمر وزارة فيشر المتهمة بتسهيل مهمة عصابات تهريب الأفراد. صحيح أن أحدا لم يطالب فيشر بالاستقالة حتى اليوم لكن ميشائيل غلوس المتحدث باسم الاتحاد المسيحي الاجتماعي البافاري في البرلمان الاتحادي نسي نفسه لوهلة حين عبر عن حنقه على غريمه فيشر ووصفه بالقواد ثم تراجع عن زلة اللسان. ينظر الخضر بقلق حيال تطورات القضية ويعرفون أنه إذا استقال فيشر سيخسر حزبهم الشخص الذي يضمن تفوقهم فيما يخشى المستشار شرودر انهيار الائتلاف الحاكم وقد طلب من وزير الداخلية شيلي أن يلتزم الصمت حيال هذه القضية لأنه مجرد أن يقر أنه حذر فيشر وأن الأخير تجاهل تحذيراته ستحدث هزة سياسية في برلين لها نتائج مدمرة للخضر بالذات

العدد 891 - السبت 12 فبراير 2005م الموافق 03 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً