"المجتمع المدني. .. مهنة من لا مهنة له..."
أمقت تلقين الدروس أو رفع الشعارات الحماسية، كما أمقت استهلاك الخطاب السياسي العربي لمصطلحات يزعجنا بها كل يوم، كانت "الشفافية" ثم "الحرية" وأخيرا "المجتمع المدني". كيف يختزل البعض مفهوم المجتمع المدني في صورة ثابتة يروج لها ويحملها ما لا تحتمل، أتصور أن كل من تفيض لديه أي عبارة أو فكرة من الأفكار، عليه أن يحيلها إلى المجتمع المدني.
يشترك المجتمع السياسي والمجتمع الثقافي في مسئولية هذا الجمود التاريخي في فهم الساسة والمشتغلين بالسياسة للمجتمع المدني، ويمثل المجتمع المدني تحديا مفهوميا ومعرفيا لثقافتنا السائدة، فالبعض يعتقد انه صورة لمجتمع مثالي، والآخرون يعتقدون انه مجتمع المؤسسات التي تقرها الدولة، فتتوزع السلطات ويقوم بذلك المجتمع المدني ببساطة ساذجة.
لي أن أزعم أن المجتمع المدني ليس حالا من الجمود، نحاول الوصول لها، وليس عبارة عن نظم جاهزة نحققها وكفى الله المؤمنين شر القتال. المجتمع المدني هو غاية، ووسيلة، وهو حال الاجتماع بين الغاية والوسيلة. نحن لا نصل لمجتمع مدني إلا من خلال مجتمع مدني. بمعنى أن الإشكال ليس سياسة بحتة، بل متعدد الجوانب والاتجاهات. هي شكل من الثقافة والاجتماع والدين والسياسة. حينما تجتمع هذه العناصر في قالب من التعايش السلمي والمدني، نكون بذلك في داخل المجتمع المدني، وإن توقف حراكنا وتفاعلنا داخل هذه المنظومة فإننا ببساطة نتوقف عن أن نكون مجتمعا مدنيا.
شرط التحقيق هو الوصول إلى مقاربة شاملة لمشكلة الحكم، والدين، والمواطنة. وكلما تأخر المجتمع المدني في التشكل تفاقمت هذه المعضلات في عالم لا يرحم المتخلفين عن ركب الحداثة والمعرفة والقوة. سأتناول في هذا المقال مشكلة الحكم على أن أعود إلى العناصر الأخرى في مقالات قادمة.
المجتمع البسيط أو البدائي يبحث عن رابط ليكون منظومته المدنية، سواء عبر الثقة بإحدى القوى الاجتماعية أو عبر تحالفات القبائل كما هي الصورة في التاريخ العربي في منطقة الخليج العربي. هذا التحالف والتعاقد يعتبر دستورا أخلاقيا بين فئات المجتمع، وهو بمثابة الرابط لتلك القوى والمحرك لسياساتها. هذه العملية البسيطة تكون مستحيلة في المجتمعات ذات التركيبات المعقدة. وبالمعنى الإجرائي على الواقع الخليجي، فإن الصورة الحاضرة للمجتمعات الخليجية اليوم أضحت معقدة، وبدأت التشكلات والقوى الاجتماعية تبدو أكثر تنافرا واختلافا عما كانت عليه في الماضي.
هنا يبحث هنتنغتون في إعادة تشكيل هذا الذي أسميته بالرابط نحو مفهوم جديد يسميه "المتحد"، والمتحد هو صيغة أكثر مدنية عن الرابط وهو ذاته الصلة الجامعة لتلك القوى في تكوين مدنيتها الحديثة وإصلاحها الحقيقي. وهي ذاتها عروة وعماد المجتمع المدني. إلا أنها ليست ناموسا أو لاهوتا، بل هي عوامل تصعد وتهبط، يختفي بعضها حينا، ويولد الآخر من دون أن يدرك المجتمع ذلك. الرابط داخل المجتمع البسيط عادة ما يكون داخليا، أما المتحدات في المجتمع المعقد والتي توحد وتجمع المجتمعات فعادة ما تكون بالضرورة "خارجية"، ولي هنا أن أحاول اتقاء الكثير من النقودات التي توجه إلى الإصلاح من الخارج. إلا أنني اتجه مجملا نحو اعتبار الخارج عنصرا رئيسا في الداخل، لماذا يصر البعض على جغرافيتنا القديمة، وبصريح العبارة، إن نفط الخليج ونفط العراق من دون الدولار الأميركي "لا يسمن ولا يغني عن جوع".
الإصلاح من الخارج له صوره الحاضرة، والتي يحاول البعض تناسيها، الإصلاح من الخارج على صعيد التأثير يعتبر قوة تاريخية حقيقية، وهي عامل في ثبات الداخل وبقائه في حال من السواء أو النزوح نحو الصراع، وأعني بالإصلاح من الخارج تحديدا تلك التأثيرات الخارجية على الإصلاح الخليجي والعربي ككل، ولا أعني به الإصلاح عبر الآلة العسكرية والحرب.
الإيرانيون بعد ثورتهم صنعوا من مبدأ "تصدير الثورة" "مفهوم خارجي"، أداة لتماسك الداخل وبقائه متزنا ومستقرا. وهاهم يتنازلون عن مبدئهم حين انتهت أهميته الداخلية، فقد وجدوا في مشروع الإصلاح الخاتمي عامل استقرار جديدا لمجتمعهم وبشكل أفضل. الشاهد هنا، أن "المبدأ" قد يصنع متحدا اجتماعيا مدنيا.
الإماراتيون اختاروا "خيار التقليد"، فنموذج النمور الآسيوية كان هو عامل إصلاحاتهم الاقتصادية واستثماراتهم المليارية، وكأن "التقليد للخارج" أداة لتماسك وحراك الداخل الإماراتي. وكذلك تلعب حاليا الأسطورة "الحرب على الإرهاب" دورا مهما في الإصلاح الخليجي والعربي السياسي والاقتصادي.
هنا لابد أن ندرك أن لا إصلاح أو تطورا سياسيا مدنيا لا يدخل الخارج فيه ويسهم في تشكله، والحقيقة التي لابد أن نصغي لها، هي أننا تعولمنا اقتصاديا، ولنا أن نعتاد "فالقبول ليس شرطا" تعولمنا سياسيا وإصلاحيا.
المجتمع المدني الذي يتملق فيه الخطاب السياسي العربي والخليجي خاصة، أشبه بالفكرة أو الحلم غير المكتمل الحوادث، إما أن نشارك جميعا في السيطرة والتشكيل لهذا الإصلاح والذي سينتج لنا مجتمعا مدنيا، والذي في حقيقته هو حراك مدني. أو أن نتباكى كالمعتاد. الخيارات لطالما كانت واضحة. لكننا من نفتقد الوضوح والمعرفة.
ستأتينا المدنية، وسيأتينا المجتمع المدني، لكن، فلنحاول أن نسبر ونبحث في كيفية استثمار هذا المستقبل المقبل، عوض أن نحدده في إطارات مسبقة، علينا أن نحاول دراسة حدوده. المدنية المقبلة في ظل ضعف تعليمي وتنموي شبحية مخيفة، ونحن في الخليج نحتاج إلى ثورة جديدة في التعليم والتنمية. لابد أن نضع وزارات التعليم والتجارة والاقتصاد الخليجية محور الاهتمام الأول في اشتغالاتنا الإعلامية. فلنسلط أدواتنا الإعلامية نحو مراقبتها جيدا، فلنعرضها لخراب جميل تحتاج إليه ونحتاج إليه نحن معها، فلنحاول أن نعيد ترتيب أولوياتنا ببساطة.
فلنخرج من وراء الحدود لنقيم الأمور من جديد من زوايا جديدة. المؤسسات لا تصنع مجتمعا مدنيا، إذا لم تكن تدار من قبل كفاءات تعي المدنية والسياسة والاقتصاد. أخيرا لا تكفي الطفل لعبة جديدة ومتطورة نهديها له، إذا كان يجهل اللعب بها أو حتى تشغيلها. وحكاية هذا الطفل هي حكايتنا التي لا تنتهي
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 888 - الأربعاء 09 فبراير 2005م الموافق 29 ذي الحجة 1425هـ