خطاب الرئيس بوش، سطره من البضاعة نفسها. "الجديد" فيه، نسبيا، اللهجة. هذه المرة كانت أكثر ليونة واسترخاء. فهو في بداية ولايته الثانية، والأمور في الداخل كما في الخارج، لا تسير على مايرام، ما أدى إلى هبوط شعبيته. وبالتالي كان لابد من تليين النبرة وتلميع الغلاف، بحيث يكون من الميسور أكثر تمرير السياسات المرسومة، التي لم يعط أية إشارات بان إدارته في وارد التراجع عنها أو حتى إعادة النظر فيها إلا، ربما، فيما خص صيغ الإخراج وطرق العبور إلى ترجمة قناعاتها الثابتة.
عادة يقدم الرئيس الأميركي من خلال هذا التقليد الدستوري السنوي - كل سنة في آخر الأسبوع الثالث من يناير/ كانون الثاني. تأخر هذه المرة بسبب حصول احتفالات التدشين في الموعد نفسه تقريره عن حال البلاد ويكون عرضه من شقين: جردة بحصيلة العام المنقضي وقائمة بالأولويات للسنة الجارية.
الرئيس بوش لم يكن لديه في الجردة انجازات وازنة لا في العام 2004 ولا خلال ولايته الأولى كلها. موازنته السياسية ترجح فيها كفة العجز للسنة الرابعة على التوالي. على الصعيد الأميركي، بقي الوضع الاقتصادي في حال تعثر. العجز في الموازنة ارتفع منسوبه وأسعار الطاقة حلقت. على الصعيد الخارجي لم تكن الحصيلة أفضل. حروبه مازالت غير ناجزة. كلفتها في ازدياد ولا أفق واضح لخواتمها. بل هي مفتوحة على تورط مديد. ما شفع به - كما بإعادة انتخابه - ان حربه على الإرهاب بدت في عين الإنسان الأميركي وكأنها هي التي أبعدت - على الأقل حتى الآن - الإرهاب عن شواطئه.
ولأن الرصيد فقير، سار الرئيس في خطابه إلى إبراز الانتخابات التي جرت في افغانستان والأراضي الفلسطينية والعراق وكأنها إنجازات هائلة حققتها إدارته، بزعم انها نشرت الديمقراطية في أكثر من مكان، وبالتالي بدأت في تجفيف منابع الإرهاب، كهدف استراتيجي يصب في خدمة الأمن القومي الأميركي، وخصوصا في إشارته إلى الشق العراقي منها، إذ كاد ان يقول إن للاحتلال فضائله، وان الانتخابات هي واحدة منها! وكان الرئيس قبل أيام قليلة، ومعه جوقة طويلة عريضة من طوني بلير إلى قسم كبير من الجسم الإعلامي، قد سارع فور إقفال صناديق الاقتراع إلى امتداح هذه التجربة العراقية بصورة مبالغ فيها جدا وإلى حد التزييف لجهة الأبعاد والدلالات المنطوية عليها، ناهيك بالمستقبل الواعد الذي قال بإنها حملت تباشيره. وإذا كان من الإنصاف القول بأنها كانت لحظة انعتاق مغبطة عند العراقيين - على الأقل الذين صوتوا وإذا ثبت ان المشاركة كانت عالية -، بعد إقامة مديدة لطغيان استوطن أرضهم وصادر حقوقهم الأساسية، إلا ان تصويرها بهذ الشكل ورفعها إلى مستوى الإنجاز الديمقراطي، لا يعتبر نوعا من النفخ الدعائي فقط بل الملغوم أيضا. فالكل يعرف وحتى الذين هللوا بأن الانتخابات كانت مشوبة بل مثقلة بالنواقص والعيوب وان الوضع العراقي بعد الانتخابات قد يكون أخطر وأسوأ مما كان عليه. لكن مع ذلك لم يتردد الرئيس الأميركي في تكبير هذه العريضة وتجييرها إلى رصيده. فهو بحاجة إلى أي تطور تبدو عليه مسحة إيجابية، للزعم بأنه يصب في تبرير حربه. وحتى الآن نجح ولو بالشائعة. والأخطر من ذلك ان الرئيس بدا عازما على توظيف هذا "النجاح" كذخيرة تساعده في تسويق القادم من سياساته الصدامية في المنطقة.
أما على صعيد الأولويات الآتية، فلم يخرج الرئيس بوش عن المعروف: العراق، إيران، سورية وموضوع "الدولة الفلسطينية" العتيدة. كرر ان إدارته ليست في وارد جدولة الانسحاب من العراق، بزعم ان في ذلك هزيمة أمام الإرهاب! في حين يطالب العالم ومعه الديمقراطيون في الكونغرس الأميركي نفسه، بضرورة تحديد سقف للاحتلال كمقدمة لإنهائه. كذلك جدد التحذير لسورية وأعرب عن امتعاض مبطن من مصر والسعودية لجهة الإصلاحات المطلوبة. وإذا كان هناك جديد على الصعيد الفلسطيني، فهي إشارته إلى ان الدولة باتت "في متناول اليد"! كم هي المسافة وأية دولة يتحدث عنها؟ في ذمة الغيب. لكن مجيء الوزيرة كوندليزا رايس إلى المنطقة فضلا عن ارتفاع وتيرة الحركة واللقاءات وتخصيص الرئيس - في خطابه - مبلغ 350 مليون دولار للسلطة الفلسطينية، كل ذلك يشير إلى أن هذا الملف قد يكون اقترب من نقطة انعطاف ولاسيما ان السلطة قد توصلت على ما يبدو إلى اتفاق مع الفصائل الأخرى على "هدنة" أو "تهدئة". وهي تهدئة قد تكون بداية تسوية مرحلية ما، بقدر ما قد تكون مفتاح تصفية ما.
كذلك فإن الملفت في خطابه ما يمكن حسبانه بمثابة النداء إلى الرأي العام الإيراني كي يتحرك ضد النظام القائم. "بقدر ما تسعون من أجل حريتكم بقدر ما تقف الولايات المتحدة إلى جانبكم"، قال مخاطبا الإيرانيين يبدوا هذا التشجيع وكأنه يعكس قرار الإدارة الأميركية بالتعويل على المعارضة الإيرانية والعمل على دعمها لإحداث التغيير المطلوب، وبالتالي استبعادها للخيار العسكري في هذه المرحلة. إلا انه في الوقت ذاته قد يكون جزءا من لعبة التمويه والإرباك التي تعتمدها واشنطن حاليا مع طهران. لكن المؤكد ان الملف الإيراني يبقى من الأولويات الأولى لإدارة بوش، حتى إشعار آخر.
ردود الفعل في الكونغرس كما بدت في رد الحزب الديمقراطي وفي أثناء الجلسة المشتركة لمجلسيه والتي ألقى الرئيس خطابه أمامها، إذ تشير إلى مدى الصعوبات التي تعترض برامجه وسياساته الداخلية الرئيسية، إلا انها في الوقت ذاته تدل على ان الرئيس بوش على رغم من تعقيدات حربه على العراق، مازال يتمتع بمساحة واسعة للحركة والتصرف في مجال السياسة الخارجية ولاسيما انه وضع حركته الهجومية هذه تحت لافتة "نشر الحرية والديمقراطية" وهو شعار يلقى المقبولية الواسعة لدى الرأي العام الأميركي الذي يحتاجه الرئيس للمضي في فرض مقاربات وقناعات إدارته في الخارج وتحديدا في الشرق الأوسط. وهي قناعات معروفة غاياتها سلفا طالما انها استوحت فكر الصهيوني ناثان شيرانسكي واستلهمت تصوراته بخصوص هذه المنطقة
العدد 883 - الجمعة 04 فبراير 2005م الموافق 24 ذي الحجة 1425هـ