تلعب قوى الإسلام السياسي اليوم في العراق دوراً كبيراً ومؤثراً، على الساحة السياسية العراقية وفي خريطة الحوادث والتطورات الجارية، وتسهم كذلك في رسم مستقبل العراق. ويطرح الواقع العراقي أمام القوى اليسارية والديمقراطية والشخصيات التقدمية العراقية مهمة كيفية التعامل مع هذه القوى عموماً، ومعرفة المشترك فيما بينها، والخصوصيات التي تتميز بها كل جهة ضمن آليات الصراع السياسي الاجتماعي في ظل منعطف سياسي كبير يتم خلاله رسم معالم الدولة العراقية، وفي ظل ظروف دولية وإقليمية تعكس آثارها على الشأن العراقي.
وتتطلب مسألة التعامل مع هذه القوى السياسية التي تتخذ من الأيديولوجية الدينية أساساً لبرامجها، معرفة الخلفية التاريخية لهذه القوى وكيفية تطوّرها وخطابها السياسي وآليات عملها وسبل تأثيرها على الجماهير.
قد يكون صعباً تقديم عرض لجميع قوى الإسلام السياسي ومكوناته في العراق، ولذلك فإننا نحاول هنا طرح عرض أولي لقوى الإسلام السياسي السني في العراق، من خلال إلقاء الضوء على نشأتها وتطورها وخطابها السياسي ومواقفها، وأختتم الورقة بعرض رؤية ومنهجية للتعامل مع القوى السياسية الإسلامية عموماً.
تعتبر حركة الإخوان المسلمين في العراق أقدم تنظيم سياسي سني، وتشكل أساساً لمعظم قوى الإسلام السياسي السني. بدأ الإخوان المسلمون العمل العلني في العراق العام باسم جمعية الاخوة الإسلامية بقيادة الشيخ محمد محمود الصواف والشيخ أمجد الزهاوي.
في العام أنشأ الإخوان المسلمون حزباً سياسياً باسم الحزب الإسلامي، وعقد الحزب مؤتمره الأول في يوليو/ تموز من العام نفسه، واعتبر الحزب نفسه امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا في مصر العام . ورفضت وزارة الداخلية العراقية آنذاك إعطاء الترخيص لتأسيس الحزب، أو إعطائه ترخيصاً لإصدار صحيفته «الجهاد». وفي الشهر العاشر من العام اعتقلت السلطات قيادة الحزب وجمّدت نشاطه، وترك الصواف العراق ورحل إلى السعودية. وبعد مجيء حزب البعث إلى السلطة العام ، تعرض الإخوان للملاحقة واعتقل عدد كبير من نشطائهم، وأعدم عدد آخر مثل عبدالعزيز البدري، محمد فرج وعبدالعزيز شندالة.
بعد قيام الحرب العراقية الإيرانية، تغاضت سلطة البعث عن نشاطات القوى والشخصيات الإسلامية السنية، في حين شدّدت على تصفية التيار السياسي الإسلامي الشيعي. وأخلت سلطة البعث سراح كوادر وقيادات من المحسوبين على الإخوان وعلى التيار السياسي السني، بعد تدخلات من قيادات الإخوان العالمية من الخارج.
موجة التدين والأزمات#
نشط التيار الإسلامي السياسي السني في التسعينات، وكانت الأرضية السياسية في العراق مناسبة لنشاط هذا التيار. فقد أطلق النظام حملته الإيمانية، وانفتح على رجال الدين السنة. وأدرك النظام بعد تجربة انتفاضة مارس/ آذار أن المخاوف الحقيقية التي تهدّد مصيره لا تأتي من هذا التيار، إذ لم تشهد المدن العراقية التي تحتوي على غالبية سنية عربية (الموصل، الأنبار، تكريت، ديالى)، وموالية لما يصطلح عليه «أهل السنة والجماعة»، تحركات معادية للنظام. وأسهمت سياسات الدكتاتورية في القضاء على أي أثر عصري وحضاري من مؤسسات المجتمع المدني، كالأحزاب والنقابات والجمعيات العصرية، في توجه الناس إلى مؤسسة المسجد.
مع استفحال أزمة النظام وحال القهر السياسي والاجتماعي وعدم سقوط النظام على اثر انتفاضة مارس ، والشعور بالجزع من احتمالات تغيير سياسي في البلاد، حدثت موجة من الإقبال على التديّن والإقبال على المساجد وبنائها بأعداد كبيرة، ونشر الكتاب الإسلامي والأنشطة الإسلامية في المساجد والجامعات والعمل الخيري والإغاثي والاجتماعي، وتراجعت الملاحقة الأمنية بشكل معين لنشطاء الإخوان، وسمح لهم بالعمل العام والدعوي والاجتماعي.
في العام أعلن في بريطانيا عن إعادة إحياء الحزب الإسلامي العراقي، وأصدر الحزب صحيفته «دار السلام»، وانتخب اياد السامرائي أميناً عاماً للحزب.
بعد سقوط نظام الحكم في العراق وإعادة الحياة السياسية العلنية، أعلن الحزب الإسلامي عن نفسه بقيادة الأستاذ بجامعة بغداد وعضو المجلس الانتقالي للحكم في العراق محسن عبدالحميد. أما أهم الشخصيات السياسية في قيادة حركة الإخوان المسلمين في العراق، فهم أسامة التكريتي وإياد السامرائي وعبدالمنعم العزي. علماً أن القوى الإسلامية السنية تشكل نطاقاً واسعاً يتجاوز الحزب المذكور، فهناك رجال الدين والمفكرون والأوقاف والمساجد والمؤسسات الإسلامية إلى جانب العمل السياسي الحزبي وغيره.
يطرح الحزب الإسلامي نفسه حزباً متبنياً للايديولوجية الإسلامية عموماً، ويعتبر الحزب الإسلام «عقيدة الأمة وهويتها الثقافية ومنهاج حياتها الذي ينبغي أن يقام عليه نظام الدولة والمجتمع».
ويرى الحزب «أن الشعب العراقي بهويته الإسلامية، وتاريخه العظيم، وحضارته العريقة، قادر على أن يتجاوز جميع المحن والصعاب، وأن يبني دولة حضارية قوية ترفرف عليها راية التوحيد، يشارك فيها جميع العراقيين على اختلاف معتقداتهم وطوائفهم وقومياتهم، ويسود فيها الخير والعدل والمساواة والتعاون والمحبة».
ويرى السامرائي أن الدولة الإسلامية التي يريدها الحزب في تصوره «دولة إسلامية حضارية ديمقراطية، حقوق المواطن فيها متاحة، حقوق الآخر فيها متاحة، مبنية على مجموعات، نتكلم عن أن الحاكمية لله، هذا صحيح باعتبار أن مصدر التشريع هو الإسلام، ولكن في الوقت نفسه نتكلم على اعتبار أن السلطة هي للشعب».
أما الديمقراطية فتعتبر نوعاً من اللعبة السياسية لبلوغ المشروع الإسلامي. ويشير عضو المكتب السياسي بالحزب محمد فاضل السامرائي إلى ذلك فيقول: «لا تتنازل الأحزاب الإسلامية عن مشروعها الإسلامي تحت أية ذريعة من الذرائع، لكن اللعبة الديمقراطية لها آليات ووسائل وضوابط نتبعها لنبلغ المراد الشرعي، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وهنالك أولويات تترتب بموجبها المطالب، والمرحلية منهج شرعي اعتمده القرآن الكريم وسار عليه رسول الله (ص)».
إلا أن الحزب في جوهره وتركيبته حزب للعرب السنة، وينعكس هذا الهاجس الطائفي الموجود في تركيبته على خطابه السياسي ومواقفه وخطه العام، بسبب طبيعة الصراعات السياسية الجارية في العراق وانقسام التيار الإسلامي في العراق إلى تيار إسلامي سياسي شيعي، وآخر سني، وانعكاس الخلافات الفقهية وثقل الخلفية التاريخية والرؤى السياسية للتيارين، وطبيعة النعرات الطائفية التي حاول النظام ترسيخها في مرافق الدولة العراقية.
وفي المقابل تتكون تركيبة قوى وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي من الشيعة العرب، وبالتالي فإن مصطلح «العراقي» أو «الإسلامي» الذي تحمله أسماء الأحزاب الإسلامية في العراق يتجاوز طبيعة وتركيبة هذه الأحزاب إذا ما قارنا الاسم بالتركيبة الاجتماعية ومناطق النفوذ والتوازن بين الخصوصيات الثقافية والمحلية، واستحقاقات المواطنة. ففي مقابل حديث التيارات السياسية الشيعية عن الغبن التاريخي الذي لحق بالشيعة على رغم كونهم يشكلون أكثرية السكان في إدارة الدولة العراقية والمساهمة في بنيتها منذ نشأتها في القرن الماضي، تتحدث قوى الإسلام السني عن وجود أكثرية عربية سنية، ووصلت مخاوف البعض من ممثلي هذا التيار إلى الحديث في الفضائيات العربية عن نسب العرب السنة في كل مدينة ومحافظة وكون هذه النسب تتجاوز نسب الشيعة.
ويظهر هذا الهاجس في الخطاب السياسي للحزب الإسلامي، ففي البيان الذي أصدره بشأن موقفه من الانتخابات، يشير في إحدى تحفظاته بشأن أسباب تعذر إجراء الانتخابات في الوقت الحاضر إلى «دخول أعداد كبيرة من غير العراقيين إلى العراق واستقرارهم في مناطق متعددة وحصولهم على حماية من بعض الأطراف العراقية النافذة واستطاعتهم ترتيب أوضاعهم القانونية فيه وتشهد على ذلك الأعداد الكبيرة من الطلبة الغرباء الذين غزوا مدارس العراق وانتظموا في الدوام فيها».
والظاهر أن المقصود بالأعداد الكبيرة من غير العراقيين والطلبة الغرباء هم القادمون من إيران، علماً أن هذه النقطة لا تشكل معظم تحفظات الحزب الإسلامي العراقي من الانتخابات، وسنأتي على ذكر مجمل موقفهم من الانتخابات في مجال آخر.
يعتمد الحزب الإسلامي في خطابه ومشروعه السياسي على الايديولوجية الدينية، ويحرص على المشروعية الدينية لتبرير سياساته بالاعتماد على الشريعة والفقه الإسلامي. ففي بيانه الذي أعلن فيه مشاركته في مجلس الحكم هناك إشارة واضحة إلى منهجية الحزب الذي يعتمد على أصول الفقه السني: «إن مشروع الحزب الإسلامي محكوم بنصوص الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من هذه الأمة اجتهاداً وتطبيقاً، مع مراعاة مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد التي اعتمدها علماؤنا ذلك لتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما والوقوع في أخف الضررين درءًا لأعظمهما، وذلك أن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد أو تقليلها كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك في مجموعته وعز بن عبدالسلام في قواعده والشاطبي في موافقاته».
ويمارس الحزب لغة السجال السياسي المعاصر الملموس في هذا البيان، الذي قد يتطابق إلى حد بعيد مع ما تطرحه أحزاب علمانية كمبررات للمشاركة في المجلس المذكور، كالحديث عن «أن المجلس لم يتشكل عن طريق التعيين المباشر لقوات الاحتلال...»، بل «عن طريق التشاور المستمر بين مختلف القوى والأحزاب العراقية والشخصيات العاملة في الساحة، وذلك استناداً إلى قرار مجلس الأمن المرقم الذي ينص على ضرورة تشكيل مجلس حكم انتقالي من العراقيين يدير شئون العراق لمدة سنة واحدة أو أكثر يهيئ فيها لمجلس نيابي منتخب وحكومة منتخبة».
وفي الوقت نفسه يبحث الحزب كحامل للايديولوجية الدينية عن الشرعية الفقهية لتبرير تلك الخطوة، فنجده يلجأ إلى القياس الفقهي، كما في
العدد 882 - الخميس 03 فبراير 2005م الموافق 23 ذي الحجة 1425هـ