العدد 880 - الثلثاء 01 فبراير 2005م الموافق 21 ذي الحجة 1425هـ

جالاتيا البحرين... الحب اليقظ!

درة من درر الدول

نجيب الزامل comments [at] alwasatnews.com

-

روى اوفيد الاغريقي الاساطير، ولكن أروع أساطيره الباقية هي "بيجماليون". وبيجماليون شاب فنان ونحات عزف عن كل النساء، واشتغل ينحت في الرخام ما أراده أن يكون أروع أنثى على الأرض. عمل بيجماليون يواصل خيوط النهارات بنسيج الليالي، حتى اكتمل التمثال وبزغ جمالا شاهقا. ثمثال من الرخام الصلد البارد يمثل شابة في ألق الأزاهير، ونثار الأقمار.

... مع الوقت وقع بيجماليون في الحب، غرق فيه كما تغرق مياه الحب العاشقين، ذله ولها وصبابة في حبيبته الرخامية وسماها "جالاتيا" وتعني في اليونانية القديمة "الحب النائم". على أن الهوى أذاب قلبه، وسكن السهاد في جفنيه. فلما جاء احتفال الآلهة راح بيجماليون يصلي للآلهة بأن تهبه زوجة في جمال جالاتيا. على أن "أفروديت" آلهة الحب حزرت ما يدور في فكره الساهي، فعقدت العزم على مفاجأة بيجماليون بمفاجأة الحياة. لما وصل بيجماليون في الليل البارد إلى بيته، راح يضع قبلته الحرى على محبوبته الرخامية، ولكن كل عرق في جسده كاد أن يروغ من مجراه بفعل الدم الدافق الحار. لما وضع بيجماليون شفاهه على تمثاله الأثير، لمس دفق دفء الحياة، وفتحت جالاتيا عينيها، واضرجت خديها حمرة دم حياء العذارى. تزوج بيجماليون جالاتيا، وقضيا حياتهما يقدمان هدايا الشكر لربة الحب، أفروديت.

وبرناردشو من ألمع وأرقى من كتب اللغة المسرحية في الانجليزية، استعار أسطورة "اوفيد" وكتب مسرحية من أشهر ما ظهر على المسرح العالمي بعنوان بيجماليون. وهي تحكي عن الأستاذ الفكتوري هنري هغنز الذي أخذ عهدا على نفسه بأن يحول بنت كوكنية بسيطة تبيع الأزهار في قارعة الطريق الى دوقة، أي سيدة مجتمع راقية. ويفوز هغنز بالرهان ويحول الصبية البدائية إلى نجمة مجتمع تدور لها رؤوس أرقى رجال لندن، وتحقد عليها غيرة أنبه سيداتها، غير أن أجمل ما في المسرحية هو ما تقوله الصبية المتدربة واسمها في المسرحية "ليزا دو ليتل" لصديق هغنز واسمه جورج بيكرنج: "هل ترى؟ حقا وصدقا، من السهل مع المدة والتدريب أن يلتقط الواحد منا الطرق الراقية للعيش، من ملبس وطريقة كلام، ولكني يا سيدي سأبقى دائما في عين هغنز تلك الفتاة السطحية الفارغة، مهما تطورت ومها عملت جادة في الرقي، فهذا لن يتغير أبدا، ولكنك يا سيد بيكرنج تعاملني دائما كسيدة راقية، لذلك فإني سأبقى دائما في عينك تلك السيدة الراقية".

وهنا تنبع طرائق حبنا لبلداننا، أو من هنا يختلف نوع حب المسئول لوطنه بين مسئول وآخر. ومن هذه النظرة تنبع كل العملية التطويرية. فهناك برأيي عمليات تطويرية للبلاد، كريمة، تضعها مع كرامتها في المراتب العالية، وبشخصيتها المقدرة بين الدول، وهناك التطوير الذي ينبع من التطوير بالحس التحتي والدوني في أن بلده متخلفة، وأنها ستبقى كذلك لذلك فإن العملية التطويرية تكون في مجملها سمجة، باهتة، وأحيانا رخيصة، فمهما تزخرفت البلاد من هذا الواقع ومن ذلك المنظور فإنها تجري بين دول العالم المتقدم كبدائية تضع ألوان التجميل كما يفعل المهرجون. تبقى فقط ألوانا من التطوير القشري الزائف، الذي لا ينفع دافعا لتتبوأ مكانا مناسبا في النظرة العالمية.

ترى أن دولا تعمل على العزف التطوري السريع في فتح البلاد بنقل التقنية من الخارج، وتكون كل العملية هي ذلك، اي تتحول الدولة فقط إلى امتداد جغرافي لشركات ومؤسسات العالم المتقدم ليس إلا. ومن هنا نقول الشركات المتعددة الجنسية لأنها تقيم في البلدان المختلفة جغرافيا وماديا، ويبقى العقل العامل ثابتا هناك في مكانه الرئيسي من البلد المتقدم الذي خرج منه. وإذا كنت تجول في الشرق الأقصى من عقود ترى أن دول حوض الهادي ما كانت إلا مرتعا لهذه الشركات، وانعكاسا صوريا مضحكا لتطور سمته امتهان البلاد وشعب البلاد، كان هذا في هونغ كونغ، وكان هذا في سنغافورة، وكان هذا في ماليزيا، وكان هذا في الفلبين. وفي تلك العقود كانت الكوريتان نائمتين بعد حرب مريرة حرقت الرطب واليابس. بينما كانت الصين العملاق الكبير مضرجا في دماء الحكم الأوحد الشيوعي وبعيدا عن كل اتجاهات الحياة الكريمة لدولة أو شعب. على أن فرموزة "تايوان" كان لها رأي آخر، وكان لليابان رأي آخر، فهما كرما بقيادة عالية الوطنية مصممة وعازمة، وكانت ترى في بلادها أمة عظيمة بين الأمم حتى ولو كانت احداهما محطمة حتى العظم من حرب كونية وبهزيمة مهينة، والأخرى محتمية بالقوة الاميركية، ولاذت بها فلول الجيش الصيني الوطني المهزوم من مسيرة ماوتسي تونغ. لذلك بزغت الامتان من الخمسينات، وبتراثهما وبطريقتهما، ولم ينتقل التطور إليهما بل هما جلبتاه وعرفتاه ثم من واقع الضمير الذي يؤمن أن البلاد عظيمة، والشعب راق عظيم، بدأت مسيرة أكبر تجربتي تطور على وجه الأرض.

على أن الدول الباقية نفضت غبار وقشور التهميش، وجاء كوان لي يو إلى سنغافورة، جادا، حازما، أتوقراطيا. متحكما، لا يتحمل كلمة اسمها المعارضة، ولكنه كان يحمل احتراما راسخا لأمته الصغيرة ولشعبه فعزم أن ينقل سنغافورة من ميناء بحري يفرغ فيه البحارة لظى شهواتهم، ويقتات معظم الناس على جواف البحر، إلى واحدة من أرقى حواضر الدنيا. وصارت سنغافورة مدينة - دولة تتسم بأنها دماغ نابض في كل مناشطها. وجاء شبيه له وبطبعه، طبيب مسلم في ماليزيا، حار الطبع، معتز بأرومته، ويرى أن علم بلاده يجب أن يرفرف على قمة العالم هو محمد مهاتير. ضحك عليه كل الناس، وفي النهاية ضحك كثيرا، فصارت ماليزيا نمرا آسيويا لا يعرف الهدوء، مفصل العضلات، وهادر في الدماغ، وصارخ الشخصية.

بقيت - للأسف - دول مثل الفلبين على رغم رقي افرادها عن جموع شعوب الباسفيك، لا تتمتع باحترام جدي، لأنها مازالت في أعين مسئوليها متسكعة في المحيط، كما كان يرى الخبير اللغوي المتغطرس هغنز فتاته المتدربة إلزا مجرد بائعة ورد رخيصة. فالبلاد إن لم تكن عنفوانا وطموحا واحتراما وايمانا في عين مسئوليها، فإنها لن تنال حظا من العنفوان والطموح والاحترام من أي أحد مطلقا. هذا منطق الأمور! تبقى بأعين الدول الراقية مجرد... بائعة ورد!

أظن أن الرسالة وصلت. البحرين درة من درر الدول، وهي مقدر لها أن تكون كذلك بالفعل متى آمن مسئولوها بأن العظمة والرقي كامنين بها في كل تربة من تربتها، وفي كل نقطة دم تدور في أجساد أبنائها وبناتها. البحرين تتطور كل يوم، وكل الدول تتطور كل يوم، ولكن تطور يختلف عن تطور آخر. البحرين أعرفها وأزورها من سنين وسنعمل بها، وسيبقى عملنا لسنين وإلا ما أتينا في الأصل... على أنك لابد كمحب أن ترتاح وتعرف أن مسئوليها يرونها سيدة راقية لا بائعة ورد.

ونظن أن كل التطورات والحزم والشجاعة التي نراها في الحقبة الأخيرة انما يدل على أن البحرين في عيونهم من الأصل هي مهد للرقي من فجر الانسان، وستبقى كذلك، وكل ما عليهم أن يوقدوا الشعلة الكامنة، ويرفعوا اللحاف عن كوامن أمة عظيمة مهما صغرت مساحتها، فالرقي الحضاري نوعي دائما وليس كميا. إن استقلال الرأي وبزوغ الشخصية ووضع الخطط الحاضرة والمستقبلة من ضمن دائرتي هذين العنصرين الثابتين سيجعل البحرين جزيرة تنير كل الخليج. لو بقي مسئول واحد يظن أنها تزخرف من الخارج بالألوان لجذب النظر من دون ترسيخ الاستمرار، وبالتضحية بكرامة السمعة من أجل حفنات من الأموال التي تطيرها أية موجة، إن بقي مسئول واحد مازال يؤمن أنها تلك السطحية الساذجة، فإن العظمة التي في داخلها ستنكفئ على السواحل الضيقة ولن تبحر في المحيط المفتوح.

... وسمينا البحرين هنا "جالاتيا"، ولكن جالاتيا البحرين هي... "الحب اليقظ"

العدد 880 - الثلثاء 01 فبراير 2005م الموافق 21 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً