منذ مطلع القرن العشرين لم تشهد البحرين محاكمة علنية لأي رأس كبير ضالع في تهم فساد مالي أو إداري، واكتفت الحكومة في كل مرة تكتشف فيها جرائم من هذا النوع باللوم والتقريع أو تدوير المناصب في حركة تلفها السرية. أما في غالب الأمر فالسياسة المتبعة هي سياسة التكتم وإطلاق اليد مقابل أمور أشبه بتبادل المصالح. وكان من المؤمل في العهد الإصلاحي أن يشاهد الناس بعض أذناب المتنفذين "على الأقل" يساقون إلى مقصلة القانون، في جو مفعم بنزاهة القضاء وجرأته على إنزال العقوبة على من يستحق ولو كان "سيدا قرشيا" وتبرئة المتهم بغير حق ولو كان "عبدا حبشيا"، فهل حدث ذلك؟
غالبية الدلائل تشير إلى أن الوضع لايزال ينحو إلى الأسوأ، ومازالت المحسوبية ترتفع فوق القانون، في الوقت الذي بقي فيه القضاء على ما كان عليه... رهينة بيد هذا المتنفذ أو ذاك. وإلا بماذا نفسر خروج "بعض المتهمين" من عنق الزجاجة بين فينة وأخرى وقد ثبتت عليهم تهم لو فعلها "فقير" لما أفلت من قضبان السجن المؤبد؟ في كل يوم يخرج لنا القضاء بحجج براقة ومخارج قانونية لبعض الجرائم المستعصية "التي تنتهك الحق العام أو تخدش الكرامة أو..." لتطوى صفحة الجريمة كطي السجل وتتساقط التهم ويخرج "الـ ..." كالشعرة من العجين.
أي وضع خاطئ هذا الذي تسعفه الأبواق الرنانة المنادية بالإصلاح، وفي كل شبر منه يقبع متنفذ؟ شتان بين التصريحات والواقع، فالتصريحات تقدم لنا الإصلاح الإداري والسياسي على طبق من الوعود المطمئنة، بيد أن الواقع يقول إن نخبة ليست بقليلة مازالت تتلاعب بالقانون أمام الكواليس وليس من ورائها، وتحصد ما يكدحه الوطن أعواما في سويعات! مازلنا نتحدث عن طبيعة الحكم الصالح ونطمح في تنمية مستدامة، والأمل يحدونا في الظفر بدولة القانون، التي يأمن فيها البريء ويعاقب فيها المسيء، غير أننا الى الآن لم نستوعب لعبة التصريحات والواقع تلك.
"مع وقف التنفيذ"!
في الأمس القريب رأينا كيف أن المحكمة تسعى إلى التسوية والمصالحة من أجل إسقاط ملايين الدنانير من أموال الشعب من ذمة "قرش" لم يرقب في الشعب إلا ولا ذمة، ولم يكتف بما نهب حتى خرج في الصحافة يهزأ زاعما أنه "حافي منتف" لا يملك سوى "قوت شهره" "البالغ ثلاثة عشر ألف دينار"! وإلى الآن لم تستطع المحكمة إيقافه على رغم ثبوت جل التهم المنسوبة إليه، بل راح يفاوضها من أجل المصالحة واختزال القضية في بضعة آلاف من الدنانير. كما لانزال نتذكر قضية الفتاة الإندونيسية المغتصبة والمجرمين الذين مازالت المحكمة عاجزة عن تجريمهم على رغم الأدلة الدامغة، وسمعنا قبل أيام خبر إطلاق سراح رأس الجريمة "مع ضمان الإقامة"!
وها هي المحكمة تطل علينا من جديد في قضية تخدش كرامة هذه المملكة الطيبة بجريمة شرف، دخلت فيها بادئ الأمر في كر وفر من أجل تنصيع الصورة، وبعد أن امتدت إليها الأصابع السحرية التي بإمكانها تلوين قضاتها كيفما شاءت، رأينا أن القضية تنتهي بتبرئة المتهم بزعم تخفيف الحكم "مع وقف التنفيذ"، على رغم ثبوت الأدلة وإصدار الحكم الأول "7 سنوات" بإجماع قضاتها كافة. ولكي تثبت المحكمة نزاهتها التامة عقبت على الحكم بالآتي:
"الثابت أن المتهم قام بالاعتداء على المجني عليها، مستغلا وجودها بمفردها وهي لا تملك إزاءه حولا ولا قوة، ما يتعين معه إدانته... بيد أنه في مجال تقدير العقوبة، فلما كان من البين من مطالعة الأوراق أن المتهم لم يسبق اتهامه في جريمة ما، ومن ثم فإن ماضيه يدل على أنه لن يعود إلى الإجرام "تأمل في عطف المحكمة" وأنه لا فائدة من توقيع العقوبة عليه، بل قد ينجم عن تنفيذها ضرر بالغ وضياع مستقبله "فما أكثر خوفنا على المستقبل!"، الأمر الذي تقضي معه المحكمة بالحبس مدة سنة "..." وأمرت بوقف تنفيذ العقوبة لمدة ثلاث سنوات"!
لن نجد حنانا ورأفة أكثر من المحكمة العزيزة بمتهميها... ولا أدري أين ذهب هذا الحنان وهذه الرأفة على مستقبل المتهمين عندما كان المئات من الشباب يزجون في السجون بتهم تعجز "الجن" عن ارتكابها؟! نعم، فسبع سنوات ستكون سبعا عجافا على هذا المتهم الوديع الذي علمت المحكمة علم اليقين أنه لن يعاود الكرة مع فتاة أخرى وهو في حال السكر الذي لم تعتبره المحكمة جريمة في رصيده. سنة واحدة تكفي مع وقف التنفيذ ثلاث سنوات لكي يتسنى للشارع أن ينسى القضية وبالتالي حتى حكم "السنة" يذهب أدراج الرياح. والشارع المسكين لا يعلم أن هذا المتهم، الذي أدين وثبتت عليه التهمة وحكم، لم يدخل السجن طوال فترة المحاكمة. وهل هؤلاء يدخلون السجن؟
هكذا يحاكم أصحاب النفوذ في مملكة البحرين... في عهد الإصلاح والشفافية والسعي إلى إصلاح سوق العمل واقتلاع جذور الفساد، هل يا ترى تدري الحكومة عن هذه التلاعبات؟ وهل ترضى أن يخترق القانون الذي وضعته من بعض مريديها والمتزلفين إليها؟ ألا تعتبر ذلك دوسا على مبادئها؟ إذا... فلماذا الصمت؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 875 - الخميس 27 يناير 2005م الموافق 16 ذي الحجة 1425هـ