لأول مرة منذ إرساء النظام الجماهيري تبرز مناكفات علنية بين مختلف مكوناته من دون أن يتدخل العقيد القذافي مباشرة أو مواربة لوضع حد لها. هل يمكن اعتبار ما حصل من نقاشات حادة داخل مؤتمر الشعب العام "البرلمان" بداية هذا الشهر، بمثابة تغيير في الممارسات، أم أنه مجرد تذكير بالعودة للأصول والالتزام بالحدود المرسومة.
خلال انعقاد دورة أشغال "مؤتمر الشعب العام" الأخيرة، حاول رئيس الوزراء شكري غانم - المقرب من سيف الإسلام القذافي - فرض تصوراته وتمرير مطالبه. إذ اقترح على أعضاء هذه الهيئة إعطاءه - من الآن وصاعدا - الصلاحيات لاختيار الوزراء الذين يشكلون فريق عمله. وذهب أبعد من ذلك من خلال انعقاد الأمانة العامة لهذا المؤتمر التي - بحسب رأيه - جعلت من هذه المؤسسة التشريعية خالية من الروح والمضمون. بناء عليه، دعا للتخلص منها ومن رئيسها كسبا للوقت وتوفيرا للجهود والطاقات. مداخلة دفعت بالحضور لمقاطعته والتشويش عليه عدة مرات.
من ناحية أخرى، وبهدف إقناع المترددين باتخاذ موقف مؤيد لسياسة التحرر الاقتصادي المعتمدة من قبل الحكومة، تهجم رئيس الوزراء على الدور الذي تضطلع به أجهزة المراقبة الإدارية التي تعوق تنفيذ القرارات. كما دعا إلى إلغاء جميع القوانين التي تعرقل النشاط الاقتصادي وعملية جذب الاستثمارات الخارجية، كذلك التصويت على الموازنة قبل نهاية كل عام وليس بعده كما هو حاصل.
لقد أدت هذه المبادرة التي حاول فيها شكري غانم استعراض عضلاته إلى إحداث حال من التشنج لدى المعارضين لسياسة الانفتاح التي يقودها منذ أكثر من سنتين. ولم يكتف هؤلاء المنتمين بغالبيتهم لحركة "اللجان الثورية" بردة الفعل الصادرة، بل صعد بعضهم للمنصة لمواجهة مطالب الذي حظي في مثل هذا اليوم من العام الماضي بمباركة دعم لا محدود من "القائد" وسيتذكر الليبيون بالمناسبة خطاب هذا الأخير المشجع لرئيس الوزراء للسير إلى آخر الشوط في تنفيذ مشروعاته الليبرالية.
كذلك، تصديه بشكل ملفت وحاد للجان الثورية، معتبرا إياها مسئولة عن كل المصائب التي لحقت بالبلاد والعباد.
أول المتصدين هذه المرة لرئيس الوزراء كان الأمين العام المساعد للبرلمان أحمد إبراهيم، وهو أحد رموز اللجان الثورية المشهود لهم بالتصلب وبالطابع العنفي في معالجة الأمور. فبعد أن اتهم شكري غانم بالخروج عن الصف وحدوده المرسومة من قبل النظام الجماهيري ومؤسساته، أكد أن "الشعب لن يتنازل أبدا عن سلطته لأي كان"، مضيفا بأن "أمانة مؤتمر الشعب العام ستستمر بلعب دورها بالمراقبة وبالحكم على أعمال الحكومة". وأنهى إبراهيم مداخلته بالقول: "يجب على رئيس الوزراء أن يدرك أنه لا يمكنه التفكير ولا الفهم ولا حتى التخطيط أفضل من الشعب".
لم يكد أحمد إبراهيم ينهي هجومه حتى تسلم الدفة منه وزير الرقابة الإدارية عبدالقادر البغدادي الذي وجه نوعا من الاستجواب لرئيسه بشأن أبعاد تغطية شوارع العاصمة طرابلس الغرب بإعلانات لشركة بيبسي - كولا. هذه الشركة الأميركية التي - بحسب قوله - تدفع درهما من أصل ثمن كل زجاجة لتأمين الدفاع عن "إسرائيل"! ولإكمال حلقة التصدي هذه، انبرى حاكم المصرف المركزي أحمد المنيسي مذكرا بأن خيرات البلاد ومؤسساتها لن تباع بالمزاد كما يحاول البعض ذلك. هنا فقط اكتشف شكري غانم مدى الخطأ الذي وقع فيه وخصوصا أن المنيسي ليس في نهاية المطاف سينفذ الأوامر ولا يمكنه بأية حال أن يتدخل لو لم تطلب منه جهات عليا، بمعنى آخر القيادة الليبية المتمثلة بمعمر القذافي. في هذه اللحظة بالذات، تحول نظر رئيس الوزراء للمنصة إذ يجلس "القائد" آملا منه أن ينتصر له وينقذه من أيدي الذين كانوا يستعدون لتصفيته سياسيا وإفقاده لصدقيته بشكل علني، وخصوصا أن جميع النقاشات داخل جلسات مؤتمر الشعب العام تم نقلها عبر شاشة التلفزيون ومن خلال الإذاعة الليبية.
وسط دهشة المراقبين، تعمد العقيد القذافي التظاهر بأنه لم يسمع شيئا، وبأنه لم ير شيئا من هذه المواجهات العلنية. ذلك، كما لو أنه كان موافقا ضمنا عليها، وعلى تصرف هؤلاء المتشددين الذين أحرجوا الرجل الذي شجعه وأشاد به ودعمه طوال السنة الماضية. على أية حال، فحتى لو استمر شكري غانم في منصبه إلى نهاية العام ،2005 إلا أن سياسة الانفتاح التي اعتمدها والمرتكزة على تحرير الاقتصاد لابد وأن يعاد النظر بها. ولن تغير دعوة الزعيم الليبي لمؤتمر الشعب العام بإلغاء القوانين الاستثنائية ومحكمة الشعب والإدعاء الشعبي الذي كان صدر أخيرا قانون بحقهما من طبيعة النظام ولا من تركيبته ولا حتى من شروط استمراريته.
باختصار، يمكن القول إن شكري غانم سقط من أعين الليبيين، كما فقد الكثير من بريقه لدى المستثمرين الأجانب الذين قطع وإياهم خطوات في السنتين الماضيتين. فالنظام واللجان الثورية عرفوا كيف يستهلكوه وبسرعة. لقد كان مجرد ورقة من بين أوراق أخرى، كانت ضرورية على ما يبدو، لمواكبة عودة ليبيا للساحة الدولية
العدد 875 - الخميس 27 يناير 2005م الموافق 16 ذي الحجة 1425هـ