أنا قومي عربي يعني أن العرب قومي، وأنا قومي إسلامي يعني أن المسلمين قومي، وأنا قومي وطني يعني أن البحرينيين قومي، وأنا أحب قومي وأخلص لهم، والمفروض علي أن أسعى إلى مصلحتهم، وإذا لم أسع لمصلحتهم فإني مقصر، وإني في قوميتي لا أتبع مذهب أبي جهل "وهو مذهب رمزي" يرمز إلى الجاهلية والعصبية وإنما أتبع مذهب الإمام زين العابدين "ع". فمذهب أبي جهل يقول أنا عربي، وأنا مع العربي إن أصاب أو أخطأ، إن أحسن أو أساء، إن أصلح أو أفسد، إن عدل أو ظلم، فهو مع من ينتمي إليهم في كل الأحوال الخيرة والشريرة. أما مذهب الإمام زين العابدين "ع" فيظهر في قوله لما سئل: "هل من العصبية أن يحب الرجل قومه؟" أجاب: "لا، ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه لكنه من العصبية أن يفضل شرار قومه على خيار غيرهم". وليس هذا الرأي اجتهادا من الإمام زين العابدين "ع"، وإنما هو نابع من روح الإسلام وقيمه، وفي مقدمتها العدل والحق والإنصاف.
والذي يبدو أن الإخوة الكرام القوميين العرب وخصوصا المثقفين منهم على مذهب أبي جهل وليسوا على مذهب الإمام زين العابدين "ع"، وإلا فما معنى حبهم الشديد لحاكم مستبد مثل صدام حسين ودفاعهم المستميت عنه، وتأييدهم المستمر له، وتبريرهم الدائم لجرائمه، مع معرفتهم التامة بما جلبه لبلده وشعبه من دمار وخراب، وما سببه لأمته من مصائب وفواجع ونكبات؟! ألم يكن الأجدر بهم - وهم طليعة القوم - أن يتقدموا إليه بالنصيحة، ويوجهوا إليه وإلى نظامه النقد، ويبرأوا منه إذا أصر على سياسته الضارة كما فعل بعض اخوانهم القوميين، الذين تحرروا من قيود العصبية، وقالوا كلمة الحق، فسلموا من تبعات الأخطاء، ونجوا من جرائم الخطايا التي ارتكبها صدام ونظامه باسم العروبة. ولو أنهم فعلوا ذلك لربما ارعوى صدام من غلوائه وغير سياسته لعدم الأعوان والمؤيدين. فالكثير من الظالمين والمستبدين يستمرون في ظلمهم واستبدادهم، لكثرة المؤيدين والمادحين المصفقين لهم. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل أيدوه ودافعوا عنه، وبرروا جميع أعماله الجائرة، ورددوا ما أطلقه على ضحاياه من نعوت وأوصاف سيئة، أعدم الآلاف من العلماء والمفكرين، ومن رفاقه أيضا، وعذب عشرات الآلاف من المعارضين، وشرد الملايين من المواطنين. والاخوة القوميون يرددون معه أن أولئك خونة وجواسيس وعملاء.
تمزيق اتفاق الجزائر
حتى حروبه التي شنها على الجيران أيدوه فيها، واختلقوا له الحجج والأسباب التي لا يعترف بها هو. فقد قال إنه هاجم إيران لاستعادة السيادة الكاملة على شط العرب. ومزق اتفاق الجزائر الذي وقعه بنفسه مع شاه إيران حينما كان نائبا للرئيس وقال بالحرف الواحد: "وقعنا مع إيران هذا الاتفاق في وقت كنا فيه ضعفاء، والآن أصبحنا أقوياء ولا داعي لهذا الاتفاق". والاخوة القوميون يقولون إن إيران هي التي اعتدت على العراق، وهي التي بدأت الحرب. وفي غزوه الكويت قال: "إن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، وهي المحافظة العراقية التاسعة عشرة، واحتلها وأعلن ضمها إلى العراق ليعيد الفرع إلى الأصل كما يقول". والاخوة القوميون العرب يقولون إن الكويت هي التي تسببت في الحرب بإجراءاتها النفطية. وهم في مقارنتهم بين الكويت والعراق في عهد صدام يصفون الكويت بالرجعية، والعمالة، والخيانة، والتبعية. مع ان النظام الكويتي يمارس قدرا من الديمقراطية أكثر مما تمارسه الأنظمة العربية الأخرى. والنظام الكويتي أعطى شعبه من ثروته التي أنعم الله بها عليه الكثير، وامتدت يده للدول العربية والإسلامية بالمعونات والمساعدات. فأنشأ في تلك الدول المدارس والمستشفيات. أما صدام حسين ونظامه الذي يصفه القوميون العرب بالتحرر والتقدم، فلم يفعل خيرا للعراق ولا للعروبة. فقد حول العراق من أغنى بلد وأعز شعب، إلى أفقر بلد وأذل شعب. وأما العروبة فلم يقدم إليها إلا شعارات يرفعها لكسب المؤيدين، مثل عزة العرب، وكرامة العرب، ونهضة العرب، وتقدم العرب، وتحرير فلسطين، وغيرها من الشعارات الطنانة، التي يطرب لها اخواننا القوميون، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع.
نظريات متهاوية
والآن وبعد أن أوصلت سياسة صدام حسين العراق إلى هذا الوضع المزري، وصيرته رهينة بيد الأعداء، يخرج علينا اخواننا القوميون العرب بمقولات ونظريات قالها أسلافهم القوميون منذ قرن، وثبت فشلها مثل: "كن مع إخوانك العرب إذا خاضوا حروبا، أو صاروا في مواجهات مع غير العرب، ولو كانوا معتدين". ونحن نسألهم وهم يدينون بالإسلام أو بديانات سماوية أخرى: هل هذا المنطق ترضاه دياناتهم؟ ومثل "الحاكم العربي القومي ومهما كان ظالما ومستبدا لا يجوز انتقاده ومعارضته، لأن ذلك يؤدي إلى سقوطه وتولي غيره ممن لا يؤمن بالقومية العربية". ونحن نسألهم هل حققت تلك النظرية للشعوب العربية التقدم والاستقرار؟ ومثل "الشعب العربي مهما لاقى من جور الحاكم وظلمه فلا يجوز أن يقبل بمساعدة الأجنبي على التخلص منه". ونحن نسألهم هل يقبل بهذه النظرية شعب البوسنة والهرسك الذي عانى على يد سلوبودان ميلوسوفيتش الذل والهوان؟ وهل يقبل بها الشعب الأفغاني الذي ذاق الأمرين من طالبان؟ وأخيرا هل يقبل بها شعب العراق الذي لاقى الأهوال والويلات من صدام حسين ونظامه؟ بالتأكيد أن هذه الشعوب لا تقبل بهذه النظريات، بل ترى أن كل البدائل خير من تلك النظم الجائرة المستبدة، وهي ترحب بكل من يعينها على الخلاص منها، ولو كان الشيطان الأكبر.
إضافة إلى ذلك فإن التخلص من المحتل الأجنبي مع صعوبته أسهل بكثير من التخلص من الأنظمة الوطنية المستبدة، لأن الاتفاق على رفض الاحتلال ممكن والاختلاف إنما هو في طريقة المقاومة. أما مقاومة الأنظمة الوطنية الفاسدة فقد لا يتفق عليه، إذ لابد من وجود مستفيدين من تلك الأنظمة، وأولئك المستفيدون سيدافعون عنها بكل قوة وخصوصا، إذا ارتبطت مصالحهم بها، كما هو حاصل الآن في العراق. فالذين يرفعون السلاح في وجه النظام الجديد يعلنون رغبتهم في طرد القوات المحتلة، ويخفون رغبتهم في عودة النظام السابق، الذي ميزهم على الفئات الأخرى. فكان منهم كبار الضباط، وكبار المسئولين، وكبار التجار، وكبار الموظفين. وصار في حسابهم أن النظام الجديد سيعاملهم معاملة سيئة لأنهم شاركوا النظام السابق في ظلمه وبطشه. وعلى أحسن تقدير سيساويهم بغيرهم. وكما جاء في المثل الدارج "أبوقرص ما يرضى بنتفة". يعني ان المعتاد على أكل الرغيف كله لا يرضى بقطعة منه. والكل يعلم أن القوات الأجنبية لو خرجت من العراق صباحا لعاد أنصار النظام السابق إليه مساء وبسطوا سيطرتهم عليه ثانية، وفعلوا بالمعارضين لهم أضعاف ما فعلوه بهم سابقا. ولديهم ما يكفي من الرجال المدنيين والعسكريين، وما يكفي من الأموال والسلاح. وإذا حصل نقص في ذلك فهناك جهات كثيرة مستعدة لمدهم بكل ما يقويهم ويمكنهم من السيطرة التامة على الأوضاع. كما أن الجميع يعلم أن هدف المطالبة بتأجيل الانتخابات في العراق ليس لتحسين ظروفه، وانما لإعطاء أنصار النظام السابق فرصة أكبر للظهور ثانية. وهذا ما يدفع الفئات التي تضررت كثيرا من النظام السابق إلى الإصرار على إجراء الانتخابات في موعدها، خوفا من أن يحصل ما يكرهون.
فرسان السياسة والمزايدات
لذلك فإنا لا نوجه الخطاب إلى تلك الفئة من الناس، لأن اقناعهم بالابتعاد عن الأنانية والعيش بالتساوي مع الآخرين مستحيل، ولكنا نوجه الخطاب إلى الأخوة العرب القوميين المثقفين، أهل الفكر والكلمة المؤثرة. لأولئك نوجه الخطاب لأن يتركوا الشعارات الطنانة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تثمر غير الفتن والمحن، ويستبدلوها بالدعوة إلى الواقعية، والأخذ بكل فكر ورأي مفيد. لأن المزايدة في الوطنية على الآخرين صارت مكشوفة، إذ إن أشد الناس تظاهرا بالعداوة لما يصفه القوميون بالدول الاستعمارية والاستكبارية والاستغلالية، ومصاصة دماء الشعوب، وفي مقدمتها بريطانيا أو أميركا. إذا أرادوا التعليم الراقي طلبوه في بريطانيا أو أميركا، وإذا أرادوا العلاج الناجح طلبوه في بريطانيا أو أميركا، وإذا أرادوا استثمار أموالهم بنجاح أرسلوها إلى بريطانيا وأميركا، وإذا أرادوا صحفا ناجحة أصدروها في بريطانيا أو أميركا، وإذا أرادوا قنوات فضائية ناجحة فتحوها في بريطانيا أو أميركا، وإذا أرادوا الراحة والاستجمام ذهبوا إلى بريطانيا أو أميركا، وإذا خافوا من بطش الأنظمة القومية المستبدة لجأوا إلى بريطانيا أو أميركا، وإذا أرادوا اقتناء المنتجات الصناعية الفاخرة اشتروها من بريطانيا أو أميركا، أما إذا أرادوا أن يظهروا أمام الشعوب العربية من فرسان السياسة البارزين حذروا من بريطانيا أو أميركا. وهذه المفارقات العجيبة أفقدتهم صدقيتهم عند الجماهير العربية، وفرقتها عنهم بعد أن كانوا روادها وموضع ثقتها.
وأنا أدعوهم الآن بكل محبة وإخلاص وتقدير واحترام، أحبهم وأخلص لهم لأني أحدهم وأقدرهم وأحترمهم لأنهم أهل العقول وأهل الكلمة المؤثرة إلى أن يأخذوا بمبدأ الحق والانصاف في تعاملهم مع القضايا الاجتماعية والسياسية ومع رموزها. ذلك المبدأ الذي يسمي الصالح صالحا، ويقف معه ولو كان من الأبعدين. ويسمي الفاسد فاسدا ويعارضه ولو كان من الأقربين. وبذلك تسمو النفوس وتنهض الأمم وتجتمع الكلمة على الخير والصلاح وتعود اليهم تلك الشعبية والجماهيرية التي كانت لهم في الخمسينات والستينات، وإنهم بها لجديرون
العدد 868 - الخميس 20 يناير 2005م الموافق 09 ذي الحجة 1425هـ