العدد 866 - الثلثاء 18 يناير 2005م الموافق 07 ذي الحجة 1425هـ

إعادة صوغ العلاقات... تحت الضغط والإكراه!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

يحتاج الناس إلى جرعة من التفاؤل، مع مطلع عام جديد، ومن باب اشاعة التفاؤل، نتمنى ألا ينتهي هذا العام، بمثل ما انتهى به العام الماضي، الذي ودعنا غير مأسوف عليه، بزلزال وطوفان "تسونامي" وكوارثه المروعة، التي ألهت الناس عن الكوارث الدامية الأخرى التي يرتكبها البشر في حق البشر، والتي تبقى أمامها كوارث الطبيعة متواضعة حنونة إلى حد كبير! غير أن الوقائع تتغلب على الأماني، مثلما يتغلب العقل على الهوى، ولذلك نقول ان العام 2005 لن ينتهي الا ونحن نشهد صياغات جديدة للعلاقات المتشابكة المتقاطعة في منطقتنا المتوترة، تقوم على فرض الأمر الواقع بالقوة الباطشة، أكثر مما تقوم على فضيلة الحوار وتبادل الآراء والأفكار والمصالح.

وبداية ندرك أن فقهاء السياسة وأساتذة العلاقات الدولية، أفنوا حياتهم في بحث واستكشاف مناهج صوغ العلاقات على المستويات الاقليمية والدولية خصوصا، ولذلك فلن نستطيع هنا ان نضيف جديدا إلى الموضوع، وان ظل واجبنا دراسة تطوراته على الدوام ومتابعته من حيث حركة الصراع التي تحكم مثل هذه العلاقات سواء بين الدول بعضها ببعض، أو بين التكتلات الدولية حتى بشكلها الراهن، الذي تتحكم فيه الى حد ظاهر قوة عظمى وحيدة هي الولايات المتحدة بعد سقوط صراع القطبين وانتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينات القرن الماضي.

ومن باب التذكير نقول انه في مرحلة الحرب الباردة بين القطبين العظميين، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، كانت حركة الصراع وصوغ العلاقات الاقليمية والدولية، أسهل وكانت أبواب المناورة انحيازا أو حيادا، أمام الدول الصغيرة مفتوحة على مصراعيها، ومن ثم كانت الضغوط القهرية أقل، بينما الاغراءات الجاذبة أكثر.

الآن انقلب الوضع، ولم يعد هناك سوى القطب الأميركي، الذي من شدة انتشائه باسقاط غريمه، انفلت كالوحش، يعيش في الغابة يعيث ويعبث بما فيها ومن فيها، ويفرض سياسته وشروطه وقيوده ومصالحه، بالقوة الجبرية، وبغطرسة السلاح وبضغوط الاقتصاد على الجميع، من أصغر دولة إلى منابر المنظمة الدولية، الأمم المتحدة فيسلبها دورها في تنظيم العلاقات الدولية، والاشراف على تطبيق معايير القانون الدولي، بصرف النظر عن دولة تتمنع هنا، او أخرى تقاوم هناك، ومن فعل شبه ذلك دخل في قائمة الدول المارقة وأدرج على قوائم الارهاب ومعاداة السامية أيضا!

وربما تكون المنطقة العربية هي أكثر مناطق العالم وقوعا تحت هذا الاكراه الأميركي المباشر الذي يتراوح ما بين اغواءات المساعدة واغراءات الديمقراطية، وبين فرض الاحتلال العسكري المباشر بقوة السلاح الباطشة، وممارسة القهر الفكري والثقافي والاعلامي والنفسي، فوق كل ذلك والهدف هو اعادة الصياغة الكاملة لما اسماه الاميركيون الشرق الأوسط الكبير، الممتد من المغرب وموريتانيا غربا، حتى حدود الهند شرقا، والذي يضم عمليا الكتلة العربية كاملة، ومعظم الكتلة الاسلامية.

ولكي لا نهوم بعيدا في التحليل النظري دعونا نتفحص ثلاثة نماذج عملية، تجري فيها إعادة صوغ العلاقات فكا وتركيبا سواء مع الداخل أو مع الخارج.

أولا: بشغف واضح وتطلع ملهوف، تدفع السياسة الاميركية بمساندة حلفائها من العرب والفرنجة، إلى إتمام "انتخابات عامة" في العراق، على رغم كل المحظورات والمحاذير مثل دوائر العنف والقتل، وشراسة الاحتلال الأجنبي الذي يقتل كثيرا ويقتل أحيانا ومقاطعة قطاع عريض من الشعب العراقي لهذه الانتخابات وتحذير عقلاء من الاستقطاب والانحياز.

لكن التلهف الاميركي هدفه سرعة وضع عمامة عراقية كبيرة، على رأس الصاروخ الأميركي، أي باختصار اضفاء شرعية ما بشهادة شهود الزور، وهم كثر هذه الأيام على الاحتلال الاميركي وسياساته ومشروعاته الحالية والمستقبلية، ليظل السيد المهيمن لآماد طويلة على هذا المفصل الاستراتيجي الواصل الفاصل بين أمة العرب وأمم أخرى من الترك والايرانيين والقوقازيين وغيرهم، وبين المسلمين العرب والمسلمين من غير العرب، ناهيك عن خزانات النفط الشهيرة في المنطقة وغيرها من المصالح الاستراتيجية الأخرى.

ولأن الذرائع الواهية لغزو واحتلال العراق في مارس/ آذار - ابريل/ نيسان من العام قبل الماضي، مثل اسقاط صدام حسين، وتدمير أسلحة الدمار الشامل في العراق، سقطت سريعا باعتراف الاميركيين أنفسهم تبقى المصالح الحيوية العليا هي السبب الرئيسي للغزو والاحتلال على نحو ما أوضحنا في الفترة السابقة.

وفي سبيل ذلك شهدنا ومازلنا نشهد، سياسة أميركا، التي تقوم بتفكيك ثم إعادة تركيب العراق، وطنا ودولة وحكومة يتكون من عدة طبقات وطوائف ومذاهب وأعراق.

وبمثل ما أججت الصراع العرقي القديم، بين عرب العراق وأكراده، أججت الصراع الطائفي الأقدم، بين شيعة العراق وسنته وعلى رغم ادراكنا لطبيعة هذه الصراعات ودوافعها الداخلية التي يتحمل العراقيون جميعا مسئوليتها التاريخية، فإن التلاعب الاميركي بها، وخصوصا بعد الاحتلال العسكري المباشر، والاصرار على اشعال نيرانها يوميا، لا يهدف الا الى فك وحدة العراق السياسية، كما يعرفها العالم، وإعادة تركيبه من جديد، بصياغة أخرى للعلاقات بين الطوائف والأعراق من ناحية، وبين هذه والعالم الخارجي، بما فيها المحيط العربي والاسلامي من ناحية أخرى... وهو الغائب أو الهارب!

واذا ما جرت الانتخابات العراقية كما هو مرسوم لها، فإن النتيجة الأولى، هي استمرار العنف والمقاومة المسلحة والانقسام الشعبي، والنتيجة الثانية هي الاندفاع نحو التقسيم!

ثانيا: بدأب شديد وإكراه أشد وراء الستار، وبترحيب كبير وتهليل عظيم، أنجزت السياسة الاميركية وضغوطها الحاسمة القاسية، "اتفاق السلام" بين حكومة السودان ومتمردي الجنوب قبل أيام، في حضور شهود إقليميين ودوليين، منهم المرحب ومنهم المذعور، ولكل اسبابه.

واذا كانت اسباب الترحيب بالاتفاق فرحا تكمن في وضع نهاية حتى ولو مؤقتة، لحرب أهلية بشعة طحنت ملايين البشر، والتهبت تحت نيران المظالم السياسية والتهميش الاقتصادي الاجتماعي وربما التفرقة العرقية والطائفية المذهبية، فإن أسباب الذعر ترجع الى انه ما كان يمكن لهذا الاتفاق ان يطبخ وينضج الا على نار أميركية، والا بصنعة اميركية حرفة، مع تقديرنا لجهود آخرين طالما فشلت في الماضي القريب والبعيد.

وبمنطق إشعال الحرائق هنا، واطفاء الحرائق هناك وسياسة تفكيك الدول والمجتمعات، ثم تركيبها وفق إعادة صياغة جديدة للعلاقات يحدث الآن تغير في السودان، كما يحدث في العراق ولكن بأشكال متباينة تباين الظروف والتركيبات والأوضاع.

ومع احترامنا لوجهة نظر المتفائلين المهللين القائلين بأن الاتفاق يضمن وحدة السودان بروح وسياسات وتوازنات جديدة، فإنني أراهن من الآن، على ان "فترة الاختيار" وهي ست سنوات المحددة فترة انتقالية لن تكتمل الا والسودان يجري نحو التقسيم والانفصال، جنوبا وشمالا، وغربا وشرقا، بدليل ما يجري على الأرض فعلا، وبهدف وإعادة تركيبة وصياغة علاقاته مع العالم الخارجي وعلى محيطه الخاص العربي الاسلامي... الغائب الهارب أيضا.

ثالثا: لا نعتقد ان العام 2005 هو عام تسوية القضية الفلسطينية، لأنها ستدخل سراديب المفاوضات، نعني المناورات التي تحتاج الى وقت آخر، تفرغ فيه السياسة الأميركية من مهماتها الأسخن، من ناحية وتحتاج فيه الحكومة الشارونية الدموية الى مزيد من السماح لانجاز تدميرها وقتلها وحرقها للشعب الفلسطيني من ناحية أخرى.

لكننا نعتقد ان العام 2005 سيكون عام المادة صوغ العلاقات بقوة الضغط والإكراه بين سورية ولبنان من ناحية، وبينهما محيطهما العربي، الغائب الهارب ثم المحيط الدولي من بعد.

ثمة اشتباكات مباشرة وغير مباشرة تدور الآن بقوة في الفضاء السوري اللبناني، ليس "لتحرير لبنان" من النفوذ السوري التاريخي ولكن لردع النفوذ السوري الحاكم داخل سورية قبل لبنان، وخارجها، فسورية في مفهوم السياسة الاميركية هي الدولة المارقة راعية الارهاب، التي لا تقوم بمهماتها بمنع تسلل "المقاتلين الارهابيين" الى العراق عبر حدودها، والتي تحتل لبنان عسكريا وتهيمن على الحكم اللبناني سياسيا وتتحكم فيه اقتصاديا وتقمع المعارضة وتناصر بعض طوائفه على بعض، وتسلب منه دوره المستنير.

ولذلك فإن عملية تفكيك هذه العلاقة وإعادة تركيبها بدأت منذ فترة وتبلورت في القانون الأميركي بمعاقبة سورية، ثم بالقرار الدولي 1559 الصادر في سبتمبر/ أيلول العام ،2004 وهو قانون أميركي بقبعة دولية نجحت واشنطن في استصداره من مجلس الأمن، ليكون السلاح الدولي فوق العنق والرأس السوري، حتى تكف يديها عن لبنان، وتنسحب بقواتها ونفوذها داخل حدودها، المحاصرة بالقوات الاميركية المحتلة للعراق شرقا، وبالقوات الاسرائيلية المحتلة لفلسطين غربا.

ومن يدقق في الوضع السوري اللبناني، يكتشف ان حركة التفكيك والتركيب ازدادت تسارعا في الشهور الأخيرة، وتصاعدت حركة الاستقطاب بين مؤيدي الوجود السوري في لبنان، وبين معارضيه وعلى الناحيتين تتوزع القوى السياسية والحزبية والإعلامية مثلما تتوزع الطوائف اللبنانية الثماني عشرة التي تشكل لوحة الموزاييك الملونة، بينما يقف فوق قمة "جنين" أعلى جبال لبنان، محرك الحوادث الأميركي ومعه هذه المرة حليفة الفرنس يدفعان الجمر المتقد.

في حين يتولى السفيران الاميركي والفرنسي اشعال نيران المعارك في ساحات بيروت ومجالسها، بتصريحاتهما التي وصفها رئيس وزراء لبنان قبل أيام، بأنها "تصريحات وقحة وتدخل سافر في الشئون الداخلية".

الخلاصة، أن عملية التفكيك وإعادة التركيب تجري بسرعة، وتندفع بقوة، فإن ارتدعت سورية وخضعت لما هو مستخدم الآن من وسائل ضغط واكراه كان بها وان لم تفعل فنار الحرب الطائفية جاهزة للاشتعال الامر الذي يستدعي التدخل الأميركي، وربما الفرنسي، عسكريا، تحت راية الشرعية الدولية وتنفيذ القرار الدولي اياه!

تبدو حوادث التفكيك والتركيب في جريانها مثل السيل المنهمر أو الطوفان المكتسح بينما تنام العواصم العربية المعنية في هدوء بليد، وكأن كل هذا لا يعنيها... ثم يتحدث المتحذلقون عن الدور المحوري والاستراتيجية الواثقة والمركز والاطراف وغير ذلك من المقعرات اللفظية!

خير الكلام

يقول البارودي:

أفي الحق ان تبكي الحمائم شجوها

ويبلى، فلا يبكي على نفسه حر

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 866 - الثلثاء 18 يناير 2005م الموافق 07 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً