"إن هذا الازدهار في صحافة الأخبار الاقتصادية لا يتعلق بنا فعلا: بل يتعلق بعلاقتنا بالذين نسعى إلى الوصول إليهم، أكنا نسميهم قراء، أو مشاهدين".
محررة الأنباء المالية في صحيفة "نيويورك تايمز" ديانا هنريكس
الاقتصاد الحديث ينمو بالتناسق مع الأسواق ورأس المال، والسؤال الرئيس في هذه الرؤية من الصحافة المدنية هو كيف تتم تغطية الصحافيين لعصر المال هذا؟وكيفية تعاملهم مع القراء فيما يخص أنباءهم وأخبارهم الاقتصادية، هل نحن فعلا نمتلك صحافة اقتصادية تستطيع مواكبة ما نتطلع إليه من نمو اقتصادي وتحسن في بنيتنا المجتمعية؟
تدرب معظم الصحافيين على تغطية الحوادث السياسية، والمؤسسات الاكاديمية العربية تهتم بتهيئة مخرجاتها لتكون قادرة على مواكبة الخبر السياسي او الاجتماعي، إلا أن أحدا منهم ليس على استعداد أن يحفظ عن ظهر قلب أسماء جميع أعضاء منظمة أوبك مثلا؟ او حتى اسم رئيس البنك الدولي؟
مصطلحات مثل "التضخم الاقتصادي"، "الرأس مال الرسمي"، "السندات المالية الحكومية والخاصة"، "معدلات فوائد الإقراض" وفهم العلاقة بين "المخاطرة والمكافأة"، "مصارف التوفير"، "صناديق الاستثمار في أسواق المال"، "أقساط التأمين التقاعدية السنوية". وطبعا ماذا تعني بالضبط "زيادة مؤشر طوكيو أو نيويورك". كلها آفاق لابد للصحافة المدنية أن تعيها، وتتفهمها، وألا تكون مثل ناقل المعرفة الجاهل بها. لا شك في أن الصحافة المدنية المهتمة بالشئون الاقتصادية والتجارية هي مطلب وطني لأية دولة تسعى إلى أن يطلق عليها دولة مواكبة للمنظومة الاقتصادية العالمية. كما أن دخول الاستثمارات الدولية إلى أية دولة من دون وجود صحافة وأجهزة مجتمعية قادرة على التعامل معها وتفعيل نجاحاتها هو مطب مجتمعي له آثاره السيئة.
الصحافة المدنية المهتمة بالاقتصاد تسعى إلى إنتاج المقالات الشفافة والعميقة الاطلاع التي تأتي بفرح الوصول إلى قمة منحنى الاقتصاد ومفاهيم الرأس مال الوطني، الصحافة المدنية في بعدها الاقتصادي تهتم بأن تعلم القارئ بمكانة دولته المالية تحديدا، لا أن تربكه في بيانات مالية معقدة ومصطلحات لم يسمع بها من قبل.
يعتقد البعض أن التوسع المثير في السنوات الماضية في أخبار الاقتصاد أوجد فريقا من صحافيي الأخبار المالية يتمتعون بخبرة عميقة وواسعة لا يمكن مضاهاتها. وأن الوسائل التقنية في يومنا الحاضر سمحت لنا بأن نعمل أكثر، وبصورة أفضل وأسرع، ولكن الحقيقة أننا مازلنا نجد صعوبة كبرى في تأسيس صحافة اقتصادية مدنية. دلالات الضعف والتقصير تأتي في الملاحظات الآتية:
- تعمد الصحافة البحرينية - كنموذج أجريت عليه بحثا خاصا يغطي الصحافة الاقتصادية - إلى تكرار أخبارها الاقتصادية كل يوم بمعدل مخيف يصل أحيانا إلى 35 في المئة، بمعنى أن الصحافة البحرينية تفتقر إلى الخبر الاقتصادي، وإلا فلماذا يكرر المحررون الخبر وفي بعض الأحيان يكرر الخبر بالصوغ نفسه والصور ذاتها.
- يعبر الكثير من الأفراد عن جهلهم بمحتوى الأخبار الاقتصادية، سواء في صعوبة المصطلحات الاقتصادية، أو شح المعلومات التوضيحية والرسوم البيانية الكفيلة بتوصيل المعلومة بشكل أسهل وأوضح.
- مازالت القابلية على قراءة الملحقات والصفحات الاقتصادية ضعيفة.
- مازالت التحقيقات الاقتصادية التي يقوم بها بعض الصحافيين غير قادرة على البروز والتأثير في صناعة الرأي العام أو التأثير عليه.
- مؤسسات المال والاقتصاد مازالت بياناتها الإعلامية خاضعة لكثير من الضغوط السياسية أو الإدارية، وليست بالمستوى المطلوب من الصدقية والبوح بالحقيقة.
- مؤسسات المال والمرافق التجارية والاقتصادية عاجزة عن التواصل من الشارع العام العربي. بمعنى أنها لم تخلق فعلا وعيا حقيقيا للشارع العربي نحو أهميتها أو دورها التنموي.
صدقية الخبر الاقتصادي
يستطيع صحافي متخصص بأخبار التكنولوجيا أو الأخبار الطبية أن يتجنب بسهولة الاتهامات غير المناسبة، كاتهامه بأنه لا يحمل الصدقية في نقله الخبر أو المعلومة، إلا أن الصحافي الاقتصادي يكون في مأزق كبير ومرهق. ومن الجميل في هذا السياق الإشارة الى أن التحقيقات التي أجراها الكونغرس الاميركي بشأن انهيار سوق الأسهم الأميركية العام 1929 تشير الى أن المتلاعبين في السوق كانوا يدفعون إلى مراسلي الصحف في نيويورك المال لتحبيذ أسهم معينة عند الطلب. كما أن الصحافي الاميركي آرثر كروك الذي عمل في صحيفة "نيويورك وورلد تلغرام"، عمل فعلا بالسر مستشارا للعلاقات العامة في شركة "ديلون ريد" للاستثمار القائمة في وول ستريت. فكان يكتب اخبارا زائفة لمصلحة شركته.
لابد أن تكون الصحافة الاقتصادية في المجتمع المدني متصفة بالحياد والصدقية في نشر الخبر الاقتصادي، ولابد من وضع معايير واضحة تتفق عليها الأطراف المعنية في تحديد صدقية الخبر الاقتصادي، كما أن التحليلات الاقتصادية لا يمكن أن تنحصر على محلل واحد فقط، فالعملية قد تخضع لمصالح شخصية لشركة على اخرى. لذلك لابد من تكثيف الدورات التي تؤهل كل مجتمع عربي الى إنتاج مؤسسات إعلامية اقتصادية تهتم بوظائف التحليل للبيانات المالية والاقتصادية.
صحافة نقل... لا نقد أو تحليل
إن معظم المحررين الاقتصاديين الجدد يعالجون الأخبار الاقتصادية المحلية من منظور العاملين في هذا القطاع. بمعنى أنهم يقومون بنقل ما يقال لهم، وقلما تجد الأعمدة الشارحة او المعقبة على تلك البيانات أو الأخبار. ولهذا أصبح القراء مستهلكين غير قادرين على التفاعل مع ما يكتب لهم. صفحات الأخبار الاقتصادية بها داء كبير، فهي لا تقرأ إلا ممن بعث اخبارها الى الصحف ليتأكد ببساطة من نشرها.
الطريف أنه أثناء هذا التحول "بمعنى ندرة القراء للصفحات الاقتصادية" ولأن القراء المقصودين قد أصبحوا أقل عددا، فقد أصبح عدد الصحافيين الاقتصاديين أيضا أقل. لهذا تعاني الصحافة العربية ومؤسسات المال على السواء من ندرة وجود الصحافي الاقتصادي المتميز، إذ إن أخبار الأعمال في يومنا الحاضر نادرا ما تدق الأوتار الرنانة، أو تتطرق إلى موضوعات تملأ القلب اعتزازا بالعمل الصحافي العظيم. معظم هذه الأخبار تصدر أصواتا لا يسمعها احد. لذلك تجد عزوفا ملحوظا في اوساط الصحافيين عن العمل في الصفحات الاقتصادية.
ماذا تحتاج؟
تحتاج الصحافة العربية الحرة الى الكثير من الإجراءات المهمة في سبيل النهوض بالصحافة الاقتصادية. هناك شقان يحركان المعادلة ويتحكمان بها، اولا/مؤسسات المال والأعمال، وثانيا/ المؤسسات الإعلامية المرئية أو المسموعة.
بالنسبة إلى مؤسسات المال فهي مطالبة، بأن تعيد استراتيجياتها في التعامل مع الصحافة، وعليها أن تعزز حضورها في برامج العلاقات العامة والإعلام، كما أن عليها أن تقوم بتدريب واستضافة الصحافيين المهتمين بهذا المجال وتدريبهم على قراءة الأسواق وحركة المال الدولية.
إن من أهم مهمات مؤسسات الاقتصاد العربية ان تحاول خلق رجال اقتصاد ذوي عقول ومواهب إعلامية، يجيدون إيصال المعلومات الاقتصادية المعقدة الى القارئ العادي البسيط. عليها أن تسعى الى "أرضنة" عالمها الذي يعتمد على المال ليفهمه كل أفراد المجتمع وليتفاعل معه.
كما أن المؤسسات الإعلامية عموما، والاكاديمية منها خصوصا، مطالبة بأن تقوم بتفعيل الصحافة الاقتصادية المتخصصة، عبر وضع برامج متخصصة في الصحافة الاقتصادية تشمل تهيئة وتدريب الصحافيين على التعامل مع البيانات المالية بمعرفة وكفاءة عالية. كما أن عليها أن تخلق الآفاق المشتركة بينها وبين مؤسسات المال والاقتصاد لخلق آفاق مشتركة وتحالفات أكاديمية تطبيقية تصب في تفعيل دور الصحافة الاقتصادية في المجتمع الحديث، الذي تعتمد التنمية فيه على الأسواق المالية بشكل لا يحتمل هذه الفجوة المعرفية القائمة بين المؤسسة الاقتصادية العربية من جهة وبين المؤسسات الإعلامية العربية من جهة أخرى
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 864 - الأحد 16 يناير 2005م الموافق 05 ذي الحجة 1425هـ