ينتابني كثير من الحزن ومزيد من التساؤل والتذمر، كلما رأيت الكفاءات البحرينية مهمشة أو متهمشة ومنكمشة، وأسعى جاهدا إلى أن أعزي نفسي وبلادي، في مسعى بائس إلى التعايش مع الواقع والتحايل على الشعور بالغبن والقهر في آن واحد، متظاهرا بأن ما يحدث هو أمر طبيعي، باعتبار أن من لا يخطئ لا يتعلم وبالتالي فإن علينا أن نحسن الظن في الآخرين ونمنحهم الفرصة تلو الأخرى.
وهكذا تجدني أحسن الظن في كل من حولي، أحسن الظن في الحكومة على رغم خطواتها غير المدروسة التي تفاقم من التمييز والطائفية، وسياستها التي تضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب وما يؤدي إليه ذلك من إهدار للجهود والطاقات التي يحتاجها الوطن؛ وأحسن الظن في المعارضة على رغم أنها تتخبط في التعاطي مع كثير من الملفات التي تهم المواطنين وقد يؤدي ذلك إلى خسائر كبيرة يدفع الناس فواتيرها بشكل غير منصف؛ وأحسن الظن في القضاة وأحكامهم على رغم أن كثيرا من القضايا تظل عالقة في أروقة القضاء عقودا من الزمن؛ وأحسن الظن في من شارك ومن قاطع الانتخابات على رغم أن ذلك قد أدى إلى وجود برلمان أكثر من ضعيف، ليس له حتى أسنان لبنية؛ وأحسن الظن أيضا في أعضاء مجلس الشورى على رغم أن بعضهم من النوع الذي لا يهش ولا ينش.
كما أحسن الظن في معظم الوزراء والوكلاء والوكلاء المساعدين والمحافظين ونوابهم؛ وأحسن الظن في مختلف مسئولي الدولة أيا كانت مواقعهم ومسئولياتهم، ومن فرط حسن ظني تجدني أحسن الظن في غالبية الصحافيين على رغم أن بعضهم ما فتئ يصب الزيت على النار في مواضيع طائفية تزيد من الاحتقانات بين أبناء الوطن الواحد وبينهم والحكومة بشكل مقزز؛ وأحسن الظن في وكالات الأنباء والمحطات الفضائية على رغم أنها دائما ما تصدر العناوين المزعجة والصور التي تبعث على اليأس والإحباط، وهكذا تجدني أحسن الظن في الجميع. فأنا من الذين يرددون على الدوام "إن بعض الظن إثم" "الحجرات: 12"، كما أنني من الذين ينادون بالتسامح وفقا للأثر "احمل أخاك المسلم على سبعين محمل من الخير".
لكن الواضح أن حسن الظن لا يغني من الأمر شيئا، فهذه البلاد تعج بالكفاءات في كل مجال، إلا أن معظم هذه الكفاءات معطلة، أو مسخرة في غير محلها، وكلما حدثتك نفسك أنك سترى قريبا، قليلا من الإنصاف قبل أن يوارى جسدك الثرى وتصعد روحك إلى بارئها، وجدت أن ذلك نوع من أضغاث الأحلام، ونظرا إلى كونك من الذين يحسنون الظن فإنك تقول أن لا أحد يريد لهذه البلاد أن تتراجع أكثر مما تراجعت منذ بداية انطلاق المشروع الإصلاحي الذي دشن فعلا عهدا جديدا من الانفتاح والمصالحة، والكثير من الوعود التي منت المواطنين بأجمل الأيام، ثم سار هذا العهد في خط تصاعدي حتى بلغ أوجه حين أمر الملك بإلغاء قانون أمن الدولة والمحكمة الخاصة به، لكن كثيرين يعتقدون أن التوجهات الإصلاحية قد أخذت في التراجع بعد ذلك، وهم يخشون أن تكون هناك بعض الجهات النافذة تساهم في هذا التراجع بشكل ممنهج.
وضمن نفسي المتفائل دائما، والذي يدعو إلى الابتعاد عن سوء الظن، فإنني أعتقد أن في الأمر لبسا ما، وأن المشروع الإصلاحي لايزال يسير في الخط المتصاعد، لكنه قد يكون أبطأ حركة، وأقل ديناميكية، وقد تكون الآلية التي تحركه بحاجة إلى بعض الصيانة وقليل من الأجزاء الجديدة والبديلة، عوضا عن الأجزاء القديمة التي لا تستطيع أن تعمل بكامل طاقتها، نتيجة الوهن والكبر والتعود والاعتياد والرتابة والروتين.
ومن دون ريب فإن من يقفون ضد الإصلاح والانفتاح هم في تراجع وتناقص، بعضهم بدأ في تلمس محاسن الإصلاح وأخذ في التأقلم مع الوضع الجديد، وبعضهم أيقن أنه لا يستطيع إيقاف عجلة التغيير فآثر السكوت والمسايرة، وبعضهم خاف على المكتسبات التي بين يديه، وهو لا يريد أن يلفت الآخرين إلى ما حصل عليه في سنوات اللهف، وبعضهم يعتقد أنه صالح لكل زمان ومكان، ومن دونه ستخرب الديار وستفقد الأمان والاستقرار، لذلك يعد العدة ويستعد ليربح الرهان.
كل له أجندة لا يفارقها، بعض الأجندات تحتوي بعض المصالح العامة وكثير من المصالح الخاصة، وبعضها يوازن بين الخاص والعام، مدعيا أنه من دعاة العدل والسلام وكرامة الإنسان، المؤمنين بنظرية "عط الخباز خبزه لو أكل نصفه"، والمصيبة أن بعض الخبازين الكبار لدينا من النوع الذي لا يقتنع بنصف الرغيف، بل إنه يشارك قسرا في كل أنواع المأكولات المصنوعة من الطحين ومن جميع الأحجام حتى تلك التي لا يشارك هو في صنعها أو استيرادها، كما يشارك في جميع أنواع البسكويت والكعك وحلويات الأعياد والمناسبات العامة والخاصة أيضا! وبعد أن يقوم بجمركة النصف المخصص للخباز، فإنه يعمل على توزيع النصف الآخر على الجميع وعلى رأسهم الخبابيز الصغار طبعا.
كم هم مساكين خبابيز البحرين، كل الناس يأكلون ويشربون براحة واطمئنان، ومن دون منغصات لكن الجميع يقوم بالتفتيش على الخبز مخافة أن يكون الخباز قد أكل نصفه فعلا، والحقيقة أن هناك من يأكلون الجمل بما حمل، لكنهم بعيدون عن العيون، لا تطالهم الأيدي ولا ترقى لهم الظنون، فهم في مواقعهم منذ سنوات لا يكترثون بمن ولد وبمن مات، كل همهم أن يجمعوا الأموال والثروات، ويكدسون الأراضي والعقارات، والمساكين أولاد وبنات البحرين مقتنعون بأن "ليس بالإمكان أفضل مما كان"، فهم يسمعون منذ نعومة أظفارهم أن "الرازق في السماء والحاسد في الأرض"، ويخافون من اتهامهم بالحسد لأنهم يعتقدون بأن "عين الحسود فيها عود"، وهم لا يملكون سوى عيونهم، فإذا خسروها خسروا كل شيء!
لذلك يصبرون على الحسرات ويتضرعون الجوع والعطش بهدف العيش في ثبات ونبات رغبة منهم في خلفة الأولاد والبنات، فلعل الجيل الجديد يكون أكثر قدرة على التعايش مع الأوضاع الصعبة، حتى لو كان ذلك بعد أن تتحول عظام الآباء إلى تراب، ذلك أن الجميع يؤمن بأن "من خلف ما مات"، والغريب أن حياة المواطنين على رغم كل المآسي وتراجع الدخل وزيادة التضخم، لاتزال غير خاضعة لقوانين العرض والطلب، فكثير ممن لم يعد يمتثل مقولة "مد رجلك على قدر لحافك"، وهكذا نجد أن عدد السيارات في البحرين قد زاد إلى أكثر من 250 ألف سيارة، وأن عدد الهواتف النقالة قد تجاوز 500 ألف هاتف، وعلى رغم أن متوسط دخل المواطنين لايزال متدنيا جدا فإنك تجد الجميع يتهافت على القروض المصرفية بشكل لافت.
أحد منكم لاحظ أن عدد الأجانب الذين يعملون في البحرين في ازدياد مطرد حتى غدت فرصتان من كل ثلاث فرص عمل جديدة تذهب للأجانب، وأصبح ثلاثة مواطنين من بين كل ثمانية يعيشون تحت مستوى الفقر، وإذا كانت الدراسات الميدانية تشير إلى أن المتوسط المناسب لدخل الأسرة البحرينية بحاجة إلى أن يتجاوز 350 دينارا حتى تتمكن من الوفاء بالتزاماتها المعيشية، فإن القادم من الأيام يحمل في طياته الكثير من الأخبار المزعجة للمواطنين.
عفوا... لم أقصد التهويل، وليس ذلك مقدمة للتخلي عن التفاؤل الذي أنادي به دائما، لكنني هنا أذكر بأن القادم أخطر على أمل "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" "الذاريات: 55"، وحتى لا يكون ذلك من دون خطوات عملية فإنني أقترح أن يسارع المواطنون في كل المناطق إلى تشكيل جمعيات وشبكات خاصة بالتنمية، تساهم في رفع المستوى الاجتماعي للمواطنين، وتقدم لنا بعض الحلول التنموية التي لا تعتمد على تحويل المواطنون إلى عالة تنتظر المساعدات الشحيحة التي تقدمها وزارة العمل والشئون الاجتماعية، والمساعدات الموسمية التي تقدمها الصناديق الخيرية التي انتشرت في البلاد بشكل كبير، دليلا على مستوى الفقر الذي ينحدر إليه المجتمع.
أرجو ألا يساء فهم هذه الدعوة إلى تشكيل جمعيات تنمية في مختلف مناطق البحرين، فهذه الجمعيات ليست بديلا للجمعيات السياسية أو الجمعيات الإسلامية أو الصناديق الخيرية، لكنها نموذج لجمعيات غير طائفية وغير متحزبة تستقطب جميع أبناء الوطن وتقدم خدماتها لكل أبناء الوطن من دون تمييز، وكبداية أعتقد أن بالإمكان تأسيس جمعية واحدة لكل محافظة بدعم من جميع مؤسسات المجتمع المدني في هذه المحافظات، وطبعا بالتنسيق مع المحافظات والمجالس البلدية
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 862 - الجمعة 14 يناير 2005م الموافق 03 ذي الحجة 1425هـ