نحسب أن العراق، كلا وأجزاء، يعيش غربة تجاه المحيط خارجا، وتجاه بعضه. ولا يقتصر الأمر على غربته الخارجية وغربة طيفيه الشيعي والكردي، بل نزعم أيضا أن سنة العراق العرب الكرام غرباء أيضا. ولعلنا نزعم أيضا أن التاريخ السياسي - الاجتماعي العربي يبدو سببا رئيسيا لغربتهم كما هو لغربة، بدت ملامحها تتكشف قليلا قليلا، للآخرين في امتداد المنطقة النفطية حتى عمان. هذا التاريخ الذي يبدو أنه أقنعهم، إلا من وعى سنن الكون وتداولات الأيام، بأن دورهم في الحياة أن يكونوا ساسة البلاد والعباد، وأن يكون منهم الضباط والقواد، وأن ليس عليهم أن يشغلوا أيديهم النظيفة في أعمال وصناعات السواد، وحتى التجارة يكون اتصالهم بها في الغالب بالواسطة لا المباشرة. من ثم تتضخم الجيوش والأجهزة الأمنية والعسكرية، التي يراقب أحدها الآخر، وتتضخم دوائر الدولة من دون خدمة أو إنتاجية حقيقية، غير تدوير للأموال العامة من دون فائض من قيمة. ولعل هذا يفسر، بدرجة ما، السبب وراء تصاعد الأعمال المسلحة فيما يسمى بمنطقة المثلث السني في العراق، والتي وإن أخذت بمسمى مقاومة المحتل إلا أنها في جزء كبير منها ربما تعكس الواقع الاجتماعي المهني، الذي اعتمد على توجه أحادي في نمط الممارسة المعيشية، يغلب عليه الارتباط أساسا بوظائف الدولة.
وحتى إذا أضفنا مسألة الاعتماد من البعض على جانب الرعي وتربية المواشي والأغنام، أو "الحلال" كما يسميه أهل البادية، فإن هذا الجانب يبدو أنه تأثر كثيرا بعوامل ربما تكون سلبية عليه، وخصوصا مع الاعتماد على الاستيراد الغزير للحوم من دول أخذت بأساليب متطورة في هذه الصناعة، ربما تعتمد على الهندسة الجينية في الإنتاج، أكثر منها على مساحات الرعي الخضراء التي تتضاءل بالتوسع العمراني والنقص في موارد المياه، فضلا عن تلوثها.
ولا نحتاج إلى الاستدلال بالإعلانات التي نشاهدها هذه الأيام على بعض الفضائيات العربية، والتي تدعو الشباب، من بلد نفطي عربي كبير، إلى الانخراط في التدريب المهني، لتعلم مهن هي من الأمور العادية لدى باقي شعوب الأرض. ولا نحتاج أيضا إلى الاستشهاد باللقاء الذي أجرته قبل أسابيع فضائية "العربية" مع المحامي والكاتب السعودي الشيخ عبدالعزيز القاسم وتلميحه للنتائج التي أوصلت إليها مناهج التعليم، من افتقار للمهارات والكفايات المطلوبة لسوق العمل. لكنه ربما غفل عن دور المؤسسة الرسمية العربية في خلق وعي خادع بضمان الوظيفة الحكومية، حتى نفاجأ، وفي دول الوفرة النفطية، بطوابير العاطلين المستغرقين تحت هذا الوهم، من ضعيفي الحيلة وقليلي الوسيلة. وبينما تأخذ دول العالم بمبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وقيام دولة المؤسسات، وإرجاع الدولة إلى حجمها وأدوارها الطبيعية في المجتمع، من تنظيم وحماية ورعاية أساسية، من دون هيمنة مفرطة أو تفريط مخل، بينما تأخذ الدول ذلك يسعى البعض إلى تركيز مقولات هي أقرب للعصبية الجاهلية، والعنصرية القبلية، والنتيجة مآس وحروب لا أول لها ولا آخر، يدفع ثمنها الضعفاء، وتضيع فيها ثروات وموارد واستقرار الأوطان. ولأننا شعوب تأكل وتشرب وتفكر سياسة، فإن التفكير دائما يجري فيما يفرق لا ما يجمع، وأن الآية أنزلت "لتعارفوا" قد أصبحت "لتعاركوا"، وأن التقوى آخر ما يفكر فيه، وأن التمكين المذكور في الآية "الذين إن مكناهم في الأرض" "الحج: 41" ليس غرضه "أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر"، إنما "لأتأمر عليكم". هكذا يضيع دور عظيم وجليل مفترض لسنة العراق العرب الكرام، في أن يكونوا هم الرابط والجامع والموحد للعراق، بروابط التوحيد والاجتماع، لصالح "وهم سياسي" أساسه الهيمنة، بأن يكونوا هم وحدهم الساسة والقادة. وإن كنا نذكر موقف الكثير من المثقفين المتنورين من سنة بغداد الذين أخذوا بالحياة المدنية والحضارية من زمن بعيد وكانت بينهم وبين النظام السابق مسافة ملحوظة، جعلتهم من المندمجين في العملية السياسية الوطنية، إلا أن السمة الغالبة هي خلاف ذلك.
السنة عامل وحدة
ومشكلة السياسة، العربية خصوصا، في الكثير من أدوارها السيئة والرديئة، أنها تعيش ما يمكن تسميته بالوهم العمودي، على حساب الدور والمسئولية الأفقيين. ولعل هذا المأزق صار ثقافة عامة، تشربته حتى القوى المعارضة من أنظمتها التسلطية. إن لسنة العراق العرب دورا مهما في حفظ التوازن القومي والديني في العراق، ومن ثم صيانة وحدته. ولا يشترط في ذلك أن يكونوا على رأس الهرم دائما. فسنة العراق العرب يجتمعون مع شيعته في الدين والعروبة، ويتمايز الاثنان مذهبيا، ويجتمعون مع الأكراد في المذهب الديني ويتمايزون قوميا. والأكراد ضمهم القهر والاستضعاف مع الشيعة، لكنهم ولأسباب تاريخية وسياسية، ساهم الظلم الواقع عليهم من أكثر من جهة فيها، ينزعون إلى التفرد الجغرافي. هذا التفرد الذي تحاول قياداتهم السياسية التهيئة له "فيدراليا"، الأمر الذي يهدد وحدة العراق واستقرار المنطقة، وهو ما ليس في مصلحة أي طرف من الأطراف.
وكون السنة العرب في وسط العراق جغرافيا، وإن كان يعطي ميزة طبيعية على الأرض، سواء في الاتجاه الإيجابي أو السلبي، فإنه أمر لا يعول عليه كثيرا. فالعراق لا يعيش، كما يتصور الكثيرون وما يريد أن يشيعه الإعلام المضلل، حالا واضحة من الفرز المذهبي الجغرافي والديمغرافي والاجتماعي الخالص. ما يخشى منه، باستمرار الأعمال المسلحة العشوائية التي تقتل الأبرياء والمواطنين العراقيين قبل غيرهم، ومقاطعة الانتخابات إراديا وقسريا من جانب الطيف السني العربي الواسع، أن تكون هناك نتائج وخيمة لا تسر أي غيور ومحب لأمته. أول ما يخشى أن تنقلب الآية فيهمش السنة العراقيون العرب سياسيا واقتصاديا، بدلا من توازنهم مع إخوانهم الآخرين. كذلك ربما يؤدي ذلك إلى تفتت العراق إلى دويلات ضعيفة، ليست ثلاثا على أساس شيعي - سني - كردي كما يتصور البعض، بل إن نظرية قابلية الانقسام المتواصل للخلية ستقع على جميع مناطق العراق حتى المتماثلة منها. وسيكون سنة العراق العرب هم الحلقة الأضعف اقتصاديا، لقلة الموارد الطبيعية في مناطقهم التي يغلب عليها الطابع الصحراوي، وسياسيا، حيث لا منافذ تجارية مهمة تخدمهم، فضلا عن استفراد المتطرفين والعصابات البعثية الهمجية بهم، وهو ما لا نرضاه كعرب وكمسلمين، لإخوان كرام لنا مثلهم.
وإذا كان البعض يخشى من السيطرة الإيرانية على الجنوب العراقي، وهذا وهم يعرفه الخبير بشيعة العراق العرب، فعليه أن يخشى أن يخسر العرب شيعة العراق، جراء التصرفات الجاهلة والغبية من البعض ممن أعمتهم العصبية الجهلاء.
نعلم أن الكلام في مثل هذه الأمور التي تختزن الكثير من الحساسية ربما يكون مزعجا وقاسيا، وقد يخطئ الرأي والتحليل، لكننا نزعم أننا نحب جميع أهل العراق، كما جميع العرب والمسلمين
العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ