عندما التقى الكاتب الصحافي المعروف محمد حسنين هيكل في الدار البيضاء مطلع السبعينات، برئيس غينيا أحمد سيكوتوري، احتج عليه الأخير لما كان ينشره في "الأهرام" مما يسيء إلى إفريقيا، قائلا: "لماذا نقع في الفخ الذي ينصبه لنا الاستعمار؟"، فتساءل هيكل عن سبب هذه الغضبة "الإفريقية" مندهشا، فأوضح سيكوتوري: "عندما نشرت أن الناخبين في الكاميرون ضاقوا ذرعا بنائب بعثوا به إلى المجلس الوطني، ولكنه لم يحسن تمثيلهم هناك، فلما عاد إلى منطقته اجتمع حوله الناخبون وأكلوه"! فقال هيكل: "إنني نشرتها وأعتقد أنها صحيحة"، فرد سيكوتوري: "ولتكن صحيحة، فلماذا ننشرها"! " كتاب "أحاديث في سيا"، صفحة 159". ولم يكمل هيكل سرد بقية ما دار بينهما، ولكنني أخذت أتخيل الحوار على النحو الآتي:
هيكل يبادر إلى طرح سؤال مضاد، يحاصر به سيكوتوري: "لماذا لا ننشرها يا فخامة الرئيس"؟ فيرد سيكوتوري وقد رفع أنفه: "لا، غير صحيح". فيجيب هيكل: "ألم يجتمع الناخبون الغاضبون حول النائب ويعروه من ثيابه وينقضوا عليه أكلا كالجوارح. حدث أم لم يحدث"؟ فيرد سيكوتوري: "هذه دعاية استعمارية، يجب ألا نصدقها".
يزداد هيكل اندهاشا ويقول: "ألم تبعث الجماعة الغاضبة، التي لم تستمرئ طعم لحم النائب، بمن يحضر لهم بعض البهارات من أكواخهم، لوضعها على لحمه قبل أكله"! فيرد سيكوتوري وقد بدا عليه الحنق: "هذه صحافة إثارة، هدفها تشويه إنجازات مجلس النواب الذين يعملون في اليوم الواحد 20 ساعة للدفاع عن مصالح الشعب الكاميروني الأبي من دون أن يطالبوا بمقابل "أوفرتايم"، وعليكم أن تغطوا الجانب الإيجابي دائما من إنجازات المؤسسات التشريعية الدستورية"!
يحتد هيكل قائلا: "ألم يكن السبب هو خيبة الأمل في النواب الذين حصلوا على سيارة "بي إم دبليو" جديدة هدية ما من ورائها "جزية"! و700 فرنك كاميروني مخصص مكتب من دون أن يفتح أي واحد منهم مكتبا حتى الآن"؟!
يرد سيكوتوري: "هذه دعاية مغرضة لتشويه المخلصين من أبناء الكاميرون". يزداد هيكل غضبا ويقول: "ايه ده! انت عاوز تتستر عليهم كمان؟ ألا تدري أنهم حاولوا الحصول على امتيازات جديدة، باسم الشعب الكاميروني، للحصول على تأمين صحي يكلف الخزانة 27 ألف فرنك لكل نائب، في الوقت الذي لا يحصل الجزء الأكبر من الشعب على 150 فرنك"؟
يحاول سيكوتوري الدفاع مرة أخرى: "هذه إشاعات استعمارية مغرضة وعملية تحريض". فيجيب هيكل وقد ازداد غضبا: "الذين أكلوا النائب يا أفندم مش عاوزين أحد يحرضهم لأنهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم، وليسوا بحاجة إلى استعمار ولا استحمار، وهل هناك أكبر من هذا الاستحمار؟".
يقفز سيكوتوري إلى منطقة أخرى للهجوم: "هؤلاء صحافيون مغرضون ينقلون ما يسمعونه من دون تحقيق أو مراعاة مصلحة الكاميرون الوطنية"، فيرد هيكل: "يعني ايه يا أفندم! هو الاستعمار وإلا الصحافيين؟ متدوخنيش معاك. أنا راجل دقيق، فلا تتلاعب بأعصابي الله يخليك. الخبر من وكالة أنباء أجنبية، احنه في الأهرام نقلناه عنها، وهي نقلت عن مراسلها في ياوندي العاصمة". يرد سيكوتوري: "خلاص، أنا قلت لك من البداية، حتى لو أكل الناس النائب، هو نائبهم وهم أحرار، يأكلوه بالبهار أو من دون بهار، انتم ايه دخلكم؟ المهم ألا تنشروه أنتم في الصحافة".
بعد أسبوع من هذا الحديث، اجتمع المجلس الوطني الكاميروني واتخذ ثلاثة قرارات "سيادية":
أولا: منع النواب وكل الموظفين والعاملين في المجلس من التصريح للصحافيين الملاعين، وكل من تثبت عليه التهمة سيفصل من عمله وسيحرم من الامتيازات بما فيها التأمين الصحي، وسيقدم إلى النيابة العامة بتهمة "استغلال المنصب الرسمي".
ثانيا: كل صحافي لعين يبعث بمثل هذه الأخبار المشبوهة إلى وكالات الانباء الأجنبية، فسيحاكم بثلاث تهم:: الخيانة العظمى والتحريض على العنف والاتصال بدولة أجنبية!
ثالثا: وضع هيكل على القائمة السوداء، ومنع "الأهرام" من دخول أراضي جمهورية الكاميرون الفاضلة وتعميم صورته على كل المنافذ البحرية والجوية والبرية والنهرية، ورفع قضيته إلى "الانتربول" لإلقاء القبض عليه. كان الله في عون هيكل، وكان الله في عون الزميلة "الأهرام"
إقرأ أيضا لـ "عباس العالي"العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ