العبر كثيرة وقليل هم المعتبرون، فالموت إحدى المصائب التي يعجز الإنسان عن جبرها. بالأمس بكينا على والد أحد الأصدقاء، وكدت أتقطع من الأنين على فقيدتي اليوم. وهذه حال الدنيا وهذا مصير الإنسان وذلك أجله، وكل يأخذ ما له ويعطي ما عليه إلى أن يستوفي حظه ودوره في الدنيا.
عمل الإنسان ونقاء سريرته واستباقه للخيرات، ودفعه السيئة بالحسنة، هو المعول الأساسي والختامي، يوم جرد الحساب وبعث الأرواح حاضرة ناظرة، ومنتظرة زخات الرحمة من رب رؤوف رحيم غفور، ما أعدله وما أحكمه، سبقت رحمته عذابه، وسبق عذابه إخطاره وإنذاره.
خلوات النفس هي أفضل ما يملكه الإنسان من غذاء روحي للتمعن في العبر والدروس. خلوات وخلوات تمر بالخاطر فيها شذرات الماضي وأهله، ومخاوف المستقبل، هذا المستقبل المحجوب عن النظر والعقل، فأي عقل تصور حدوث تسونامي؟ وأي عقل استشرف انكسار العراق العظيم وعاصمة الرشيد، أمام أحذية الجيش الأميركي الذي انتهك المحرمات ودنسها، وعاثت كلاب المخابرات الأمبريالية والصهيونية وعربدت في مدنه وقراه. إنها أكبر هزيمة للعقل الدولي - التكنولوجي، وهذا الإنسان الذي يذهب لاستكشاف المريخ وهو مغرق في الجهل بما تحت أقدامه من زلازل وبراكين! لا يعلم موعد هيجانها وانبلاجها إلا علام الغيوب.
الخلوة، هي سمو روحاني للمرء، يسمو فيها على جراحاته، ويطهر قلبه من الأدران، فانظر كم من أدران تحملها بين ضلوعك؟ أليس منظر هؤلاء التائهين البائسين الذين عصف بهم "تسونامي" يكفيك للقيام بهذا التطهير عاجلا ليس آجلا!؟ ثم أليس الأجدر بك ألا تحمل هذه الأدران من الأساس! وبالتالي تفتش وتنقب عن أطيب ما يحمله من أوصاف وتحملق فيها؟ وكما يقول الشيخ سلمان العوده: إنك لن تعدم في صاحبك خصلة خير تثني عليها. فوطن النفس على ذلك، وارحل بعيدا حيث أتيت من طين، والطين طاهر والنار محرقة، وإبليس من نار والحقد والحسد هما كذلك نار. فاخفت وميض شيطانك، ونار حقدك وحسدك على الآخرين، يصفو قلبك وتسمو نفسك وتزهو بدنياك، وإن عشت فقيرا حافي القدمين!
في لحظات الخلوة تسيطر علي كثير من الهواجس والموضوعات، ولعل أكثرها إلحاحا وأشدها إزعاجا هي تلك المتعلقة بالمحتاج والفقير والمعدم. والغرابة في أنه كيف يعيش هؤلاء مبتسمي الثغور، ويقدمون عبارات الثناء، والطيبة تكسو وجوههم، وأقف متأملا فأقول: أمثل هذه الوجوه تشوهها النار! لا والله ما أظن ذلك، فالله هو الغفور الرحيم وسعت رحمته كل شيء، لا يعذبهم بل يغفر ويسامح ويمحو سيئاتهم ويبدلها بحسنات نراها على وجوههم مرتسمة في الدنيا، لا تمسهم النار، أكاد أجزم بذلك!
لحظات خلوة المرء بنفسه، تتبدد فيها الهموم، وتغلق منافذ الأدران، ثم ما أن يعود لمجتمعه المثقل بكل أنواع الدونية والانتهازية، والمادية النفعية، الدارجة اليوم، حتى يتموضع الدرن في النفس، ويأخذ مكانه من جديد! فما يقرره في تلك اللحظات يصطدم بعكسه في المجتمع! تماما، ومثل ما تقرره الفلسفة يخربه الأشرار. والنتيجة ان ما نجنيه من خلواتنا بأنفسنا يضيع في ساحة الحوادث والمعارك والصراعات والنزاعات المجتمعية.
وتبقى الخلوة التي لابد منها هي ظلمة القبر، فلا متأمل ولا عائد إلى هذه الصراعات المجتمعية، وخلوة القبر التي لا نقول حيالها إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا على الفراق لمحزونون... ويبقى السؤال: من منا اصطحب معه في خلواته أدوات تطهير النفس؟
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 853 - الأربعاء 05 يناير 2005م الموافق 24 ذي القعدة 1425هـ