علني لا أخفي مدى إعجابي بشخص دولة رئيس وزراء لبنان السابق سليم الحص سواء حينما كان في السلطة أو بعد خروجه منها. إذ بقى وفيا لمبادئه ولم تغيره السلطة والنفوذ ولم تؤثر أو تميع أو تلين مواقفه، على رغم كثرة الضغوط التي مورست ضده. وبداية أريد الإشارة إلى ان الحص من القلائل في وطننا العربي الذين لم ينكفأوا بعد الخروج من السلطة، إنما راح يمارس دوره الوطني الشامل ويعطي "عصارة العمر" الذي أفنى ربع قرن منه سياسيا، وراح يكتب ويفلسف الأشياء وينظر لمستقبل عربي زاهر، وإن كانت غالبية كتاباته تدل على تشاؤمه، ولكنها خبرة العارف بالواقع العربي المر.
وقد مارس الحص في سبيل نشر أفكاره ونظرته للأشياء، الكتابة في الصحافة اللبنانية "السفير" و"النهار" و"اللواء" و"العربية" "الخليج"، ومنها تلذذنا برحيق تلك العصارة التي قدمها لنا في كتابه "عصارة العمر". وسنبحر مع الحص في مواقفة وآرائه في: الصراع العربي الصهيوني، والإصلاح في الوطن العربي، وضمير المسئول.
الصراع العربي الصهيوني
أخذ الصراع العربي الصهيوني حيزا كبيرا من فكر دولة الرئيس الحص إذ إن "الصراع بين العروبة والصهيونية لم يبلغ مبلغ الحسم بعد، على رغم فقدان التكافؤ في القوة العسكرية بين العرب و"إسرائيل" المستقوية بأعظم قوة عسكرية في الزمن المعاصر". ليس هذا فحسب بل ويعتبر أن "فلسطين أسطع حال للصدام بين الحق والقوة، وإنموذجا صارخا لا يبتدي فيه الحق والقوة في جانب واحد بل على طرفي نقيض". المفكر سليم الحص يرى أن العرب باتوا مقتنعين بأن أميركا لا تملك سياسة أو استراتيجية ذاتية حيال الشرق الأوسط، بل ثمة سياسة أو استراتيجية إسرائيلية تتبناها أميركا وتطبقها من دون تردد أو تحفظ أو سؤال. إذا نجحت أميركا، من خلال دعمها المطلق والأعمى إلى "إسرائيل"، في فرض حل غير عادل لقضية العرب المركزية في فلسطين، فإن النتيجة لن تكون في حال من الأحوال سلاما ناجزا بل مجرد محطة جديدة في سياق الصراع العربي الإسرائيلي، كما كانت الحروب العربية الإسرائيلية. ومرد هذه النتيجة كما يرى الحص إلى أن السلام يفترض الاستقرار، والاستقرار المنشود لن يتحقق ما دام هناك شعب يشعر بأنه مقهور وحقه مهدور، وما دام وراء هذا الشعب أمة تنتصر له ولحقه. لابد أن يعود الحق إلى نصابه عاجلا أم آجلا. هكذا ظل الحص وفيا للمبادئ والقيم العربية الأصيلة التي ترى ان الحق لابد أن يعود إلى أهله طال الزمن أم قصر. ويلقي الحص بكامل المسئولية ويحمل الرئيس بوش المسئولية الكاملة عما يحدث في فلسطين من قتل وتدمير وتبديد للأرزاق وتشريد للعائلات، وذلك في نداء وجهه إليه، واعتبر أن أميركا شريك في كل ذلك، وتساءل حينها بأي منطق يبقى الرئيس الأميركي ساكتا على الجرائم التي ترتكب وباسم سياسة أين منها استبداد المستبدين ورعونة المتجبرين وبطش المستكبرين؟ ويضيف: لقد قررت أيها الرئيس الأميركي التحالف مع جزار العصر شارون، فلا تلمنا إن نحن حملناك أوزاره فأنت من حيث تريد أو لا تريد شريك له في جرائمه". ويرى "ان أميركا في وضع هجين فهي تطبق هذه القيم داخل الولايات المتحدة الأميركية وتطبق نقيضها خارج أميركا".
الإصلاح في الوطن العربي
حول رفض الأنظمة العربية للإصلاح من الخارج، ورفعهم مانشيت "الإصلاح يجب أن ينبع من الداخل". يقول الحص: إنها كلمة حق يراد بها باطل. وإن إرادة التغيير، في حال وجودها، تفترض وجود الديمقراطية ولو في حدها الادنى، والديمقراطية بهذا المعنى ليست نظاما فحسب بل هي ايضا ثقافة. فماذا لنا نحن العرب من الثقافة الديمقراطية؟ ويرى أن الشعب العربي في كل مكان غارقا في همومه وشجونه المعيشية والحياتية فلم يعد في وعيه متسع لقضاياه: قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. فما الذي سيحفزه على التحرك، حتى في حال وجود تصميم على تحدي اساليب القمع والكبت؟
ويعزي إيمانه بهذه الفكرة إلى عدم وجود آلية التغيير "التي" تتجسد عموما بوجود دستور، ينص على كيفية التعديل، ووجود سلطة اشتراعية "تشريعية" تقرر التغيير. وعلى ذلك يتساءل: أين كل ذلك مما هو قائم في الانظمة العربية؟ ويواصل نقده للأنظمة الحاكمة بقوله: بعض الاقطار العربية تفتقر حتى الى دستور. في سائر الانظمة العربية القرار، بما في ذلك قرار التغيير وبالتالي الإصلاح، في يد الحاكم. ولما كان اي تغيير أو اصلاح سيكون بالضرورة على حساب سلطات الحاكم وصلاحياته ومقامه، فمن غير المتوقع ان يتخذ الحاكم العربي قرار الإصلاح المنشود. فذلك سيكون في منزلة الانتحار للحاكم. فمن من حكامنا جاهز للانتحار؟أما والحال هذه، فكيف يمكن ان ينبع الإصلاح من الداخل؟
ويلخص الدمقراطية الحقيقية بأنها تتلازم مع خصوصيتين اثنتين على الاقل: تمثيل شعبي صحيح ومحاسبة فعالة. وكلتا الخصوصيتين منقوصتان، حتى لا نقول انهما مغيبتان الى حد بعيد، في النظام اللبناني. فالتمثيل الشعبي محكوم بنظام المحادل والجرافات الانتخابية التي يستأثر فيه زعيم بالتمثيل في منطقة بأسرها. وهو محكوم بالعشائرية والزعامات الموروثة والعصبيات المذهبية والطائفية. وهو محكوم ايضا بفعل المال السياسي الذي أحال الساحة الانتخابية في بعض الحالات سوق نخاسة تشرى فيها وتباع اصوات الناخبين والضمائر والولاءات وحتى الآراء والمواقف".
ويبقى القول صحيحا من أن هذا هو وضع المجتمعات العربية الذي هو في حقيقته ليس بأفضل حالا من الأنظمة السياسية القائمة، في نظرته للديمقراطية وممارسة الحقوق السياسية، وإن كانت الأنظمة تتحمل الجزء الأكبر من خلال امتلاكها واستخدامها كل وسائل وأدوات القمع والإرهاب والإقصاء للمطالبين بالحريات والديمقراطية والمحاسبة وتثبيت ركائز الحكم الصالح.
وعلى رغم نظرته المتشائمة حيال الأوضاع العربية إلا أن دولة الرئيس الحص يرى ان "الواقع العربي المزري مكشوف على كل الاحتمالات في كل لحظة" ويرى ان "أعظم ما سيوحد العرب في يوم من الايام هو، الى ما يجمع بينهم من لغة واحدة وثقافة مشتركة ومصالح متبادلة، شعور عارم بوحدة المصير". ونحن نأمل أن يكون ذلك اليوم قبل يوم القيامة.
ضمير المسئول
في كتاباته عن ضمير المسئول العربي، وقياسا على المثل العربي القديم "لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله" يكتب الحص "لله در الندم ما اجدره، نشب في ضمير المرء فطهره". ويضيف: هل شاهدت يوما حاكما نادما على فعل من افعاله؟ هل سمعت مسئولا يعترف بأن ضميره مثقل او غير مرتاح؟ الندم إنما هو تعبير عن عذاب الضمير. ويقول: في البلدان العربية، حيث الملك أو الأمير أو الرئيس هو الحاكم المطلق، لا وجود فعليا لآليات المحاسبة في النظام، فلا وازع تاليا ولا رادع سوى الضمير. والمواطن العربي لم يألف مشهد حاكم يعترف أمام شعبه بوخز الضمير حيال خطأ ارتكبه او خطيئة. لم نسمع حاكما عربيا يقر يوما بذنب اقترفه فيلتمس الصفح من شعبه، او يتنحى طوعا عن منصبه، اللهم الا جمال عبدالناصر يوم اعلن تنحيه بعد الهزيمة. هذا ما يقوله الحص اليوم، ولكن ما الأشياء التي ندم عليها الحص وهو في السلطة؟!
هذا جانب من شخصية دولة الرئيس سليم الحص وهذه فلسفته. الآن، وبعد أن رحل الحص عن السلطة وقدم "عصارة العمر" لمن سيخلفونه، ترى هل سيعيرون هذه العصارة اهتماما يليق بمكانة الرجل ومكانة أفكاره؟ سؤال يلقي بكامل المسئولية في ملعب الرؤساء والمسئولين العرب؟
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 852 - الثلثاء 04 يناير 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1425هـ