"كل قوي وفيه اللي أقوى منه". .. نتحدى... نصارع... نخوض الغمار... ننتصر... وفي النهاية نعود لننهزم... جمل وكلمات قد تطرأ على بال كل من التقاها وفجأة قرأ خبر نعيها.
كنت بعد أخطو خطواتي الأولى في عالم الكتابة عبر هذه الصحيفة الغراء، وحسن حظي - أو سوءه لا أدري، إذ ما أصعب نبأ الفراق لشخص تعرفه - جعلني أشرف على صفحة "علوم" آنذاك التي كانت تعنى بأمور الصحة والبيئة والتكنولوجيا، وإن كانت الموضوعات الصحية هي السمة الغالبة على الصفحة... ولانتشاره في أوساط مجتمعنا في الصغار قبل الكبار انتقيت داء السكري ليكون موضوعا حاولت تسليط الضوء عليه من جميع الجوانب فأفردت له صفحة كاملة كل موضوعاتها تتحدث عنه، ولم أكن أدري أنني كنت أخط موعدا للقاء صبية لم تتجاوز السادسة عشرة حينذاك، إذ كانت الدعوة موجهة من قبل لجنة الشابات التابعة لجمعية المرأة البحرينية لتغطية محاضرة بعنوان "السكري عند الأطفال" تلقيها نبأ محمد الخزاعي، من دون الإشارة إلى ماهية "نبأ"... وبديهي أن سيرسم الذهن صورة لمقام طبيبة فاضلة متخصصة في هذا الداء، ولكن المفاجأة حينما أدلوني إلى "نبأ"، فتلعثمت الكلمات على لساني ولم أعرف بماذا أناديها... أويعقل أن تكون نبأ طبيبة فعلا ولكن هيئتها الصغيرة تعطيها سنا أصغر من سنها بكثير؟!... ومن أولى كلمات الحديث تيقنت أنها طفلة صغيرة، ولكنها طبيبة نالت شهادة الدكتوراه في داء السكري بعدما اكتوت بناره في سن التاسعة فصمدت وتحدت وتغلبت عليه، بل على "أكبرها" طبيب متخصص!
ألقت نبأ محاضرتها بثقة الكبار وأجابت على أسئلة واستفسارات من هن في سن أمها وأكبر، وزرعت في قلوب الجميع بذرة الأمل والإعجاب بشخص امرأة "ولا كل النساء".
مرت الأيام لم التق فيها نبأ ولا والديها اللذين كانا الذراع الأيمن لابنتهما حتى حققت أقوى الانتصارات على داء ما فتئ يفتك بكم هائل من الناس في بلادنا التي تزخر بهم وهم في ازدياد يوما عن يوم... أيام فرقتنا وذكرى ما برحت تطرق باب مخيلتي كلما لمحت في وجه فتاة جزءا من نبأ أو تقت لأن تكون كل فتاة بقوة وصلابة وشخصية نبأ... نبأ التي مثلت لي -شخصيا - الكثير من لقاء واحد... نبأ التي ارتسمت فيها ملامح لشخصية امرأة كلت ألسن المناصرات لها والمطالبات بنهضتها من النفخ في القرب المثقوبة حتى شاب الشعر وما وصلن إلى الغاية!
وقبل أيام بسيطة أقرأ خبر حادث مروري راحت ضحيته فتاة في السابعة عشرة من العمر لفقدانها السيطرة على السيارة من دون الإشارة إلى هوية الضحية، وبعده بيوم وأنا أتصفح الصحف اليومية لا أعلم ما الذي دفعني إلى قراءة زاوية ما شدتني في يوم لقراءتها، ولكن رموزها أصابت قلبي فجذبته إلى متابعة القراءة ما زادت دقات قلبي إلا اضطرابا فتمنى أن تكون الحقيقة سرابا وخيالا... حتى صرحت بالاسم كاملا وبالصفات ذاتها التي عرفتها في نبأ فما عاد للأمل من مجال ليفتح باب الفراق الأبدي!
تحدت... صارعت... انتصرت... ولكنها أمام مشيئة الخالق رفعت الراية البيضاء لتسكن بهدوء وسلام وكأن قوتها التي عرفتها فيها قد انتزعت منها انتزاعا فهزمها الموت في جولتها الأخيرة معه فذابت في فنجانه بعدما عصت حقن الأنسولين عن النيل من عزيمتها فعقدت اتفاق سلام معها منذ أن كانت في التاسعة من عمرها!... نبأ وأي نبأ بعثته لنا لتزيدينا حسرة تأملنا أن تكوني أنت أول من ينتزعها من جوف نساء تقن لأن يكن مثلك؟!... ولكن لا يسعنا إلا القول: نامي بدعة طفلة تمردت عليها، وهنيئا لفنجان كنت أنت سكرته، ولتبق المرأة فيك حلما يذكرنا بك كلما سعينا نحو تحقيقه.
كلمة قالتها نبأ: "كل ما أحاول إيصاله إلى الناس أن السكري مرض عادي أهون بكثير من الأمراض المعاصرة التي يصعب التكيف معها، والمريض عليه أن يكون شجاعا ويتخطى كل الحواجز التي سيجدها بمرور الزمن هينة ويسيرة"
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 850 - الأحد 02 يناير 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1425هـ