لغير المتابعين للشأن السوداني بدا لهم ان إثارة وضع العاصمة السودانية القومية الخرطوم مسألة «جديدة» أفرزتها مفاوضات مشاكوس الراهنة إذ طالبت الحركة الشعبية لتحرير السودان بعلمانيتها لتصبح عاصمة «قومية» للطرفين، حكومة الإنقاذ وحركة قرنق.
غير أن إثارة هذه الإشكالية ترجع إلى سنتين خلتا، وبالتحديد إلى شهر سبتمبر/ ايلول سنة 2000.
فالخرطوم، تبعا للترسيم الاداري تشكل واحدة من 26 ولاية سودانية وفقا للنظام الدستوري «اللامركزي». وتدار بموجب دستور الانقاذ للعام 1998 وفق الفهم الخاص به للاسلام وشريعته وأحكامه. وهو مستمد ومستمر عن قوانين الرئيس السوداني السابق جعفر نميري التي اعلنها وطبقها في سبتمبر 1983، ويعرفها السودانيون بأنها «احكام سبتمبر» ثم «شريعة الانقاذ» ولا يطلقون عليها «شريعة الإسلام» إلا من كان منهم مواليا للنظام.
صاغ الشيخ حسن الترابي تلك القوانين التي اسماها «لاهوتية» وليس «اسلامية» للرئيس نميري في إطار ما عرف «بالثورة القضائية التي اعلنت بتاريخ 8 سبتمبر 1983 ثم طبقت دستورا جديدا في يونيو/ حزيران 1984.
أما النائب الاول والحالي لرئيس الجمهورية وهو علي عثمان محمد طه، وهو قانوني كشيخه الترابي، فقد كان وقتها ـ في عهد نميري ـ رئيسا للجنة «التشريع والشئون القانونية في البرلمان (مجلس الشعب) إذ كان نائبا في ذلك البرلمان طوال الفترة بين 1978 و1980 ثم اصبح رئيسا للهيئة البرلمانية لنواب الحكومة طوال عامي 1984 و1985.
فبحكم تحالف الحركة الاسلامية مع نميري «صاغ» الشيخ الترابي هذه القوانين المستمرة حتى اليوم، كما تولى النائب الاول الحالي للرئيس البشير «الإشراف» على تنفيذها بحكم رئاسته في عهد نميري للجنة التشريع والشئون القانونية.
وفي فترة نميري أيضا تم صوغ نظام وقانون التوالي السياسي الذي يحكم الحياة السياسية في ظل «الانقاذ» الآن. وقد صاغ الترابي ذلك القانون ليشكل بموجبه النظام السياسي لجعفر نميري بديلا عن «الاتحاد الاشتراكي» الذي لا يتلاءم مع قوانين اسلامهم المعلنة في 1983، وذلك حين تقدموا بتعديل الدستور في سبتمبر 1984. وقدم الترابي لنظام «التوالي السياسي» في محاضرة بعنوان «الشورى والديمقراطية» في معهد «الدراسات السياسية والاستراتيجية» في الخرطوم، ثم نشرت المحاضرة - لاحقا - بعد سقوط نميري في ابريل/ نيسان 1985 في مجلة ( المستقبل العربي ـ عدد 75 ـ تاريخ مايو/ آيار 1985).
ثم ضمنت دستور الانقاذ الحالي وبوشر في التطبيق بداية من يناير/ كانون الثاني 1999.
بموجب تلك القوانين تم إعدام المفكر الصوفي الاصلاحي السوداني محمود محمد طه في 18 يناير 1985، كما نفذ «الصلب من خلاف» وقطع يد السارق حتى من دون تخدير طبي، وفصل ثلاثة ارباع الجهاز القضائي في السودان. واستتبع ذلك انشاء اجهزة بوليسية «لمراقبة المجتمع» ومساءلة كل من يرتاد الطريق عن «صاحبته» أهي زوجته أم اخته وحتى إن كانت امه.
فإن وضح غير ذلك تطبق عقوبة اسميت «الشروع في الزنا». وليس الزنا بأحكام الضبط الشرعي للمواقعة. والجلد حتى لحامل قارورة الخمر ولو لم يشربها.
اكد الانقاذ التزامه بتلك القوانين، وخصوصا ان المشرع الثاني لها وهو النائب الاول الحالي لرئيس الجمهورية قد بقي في سدة النظام «وحليفه» للمشرع الاول حسن الترابي الذي اقصى من مناصبه كافة وجرد من صلاحياته ايضا (زعامة حزب النظام/ المؤتمر الوطني مع رئاسة مجلس النظام النيابي) بتاريخ 12 ديسمبر/ كانون الاول 1999 ثم تم اعتقاله لاحقا في 22 فبراير/ شباط 2001 وإلى اليوم، إثر توقيع حزبه الجديد (المؤتمر الوطني الشعبي) مذكرة «تفاهم» مع حركة جون قرنق في جنيف بتاريخ 20 فبراير 2001. ومذكرة تفاهم (جماعة الشيخ) مع قرنق هي «دون» مذكرتي تفاهم النظام مع قرنق في «مشاكوس» بتاريخ 20 يونيو/ تموز ثم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002.
الخرطوم وقوانين نميري 2000
بحكم سريان «قوانين نميري» حتى الآن ـ مع غض الطرف عن العقوبات لاسباب «برغماتية» بحتة ـ وبحكم ان العاصمة الخرطوم ولاية من الولايات لا تتميز بوضع «مركزي» عاصمة قومية، فقد طبق عليها والي الخرطوم السابق مجذوب الخليفة بعضا من تلك القوانين. وعلى رأسها طرد النساء العاملات السودانيات من الخدمة في محطات البنزين «والاماكن العامة».
اصدر «الوالي» ذلك القرار في مطلع سبتمبر/ ايلول 2000، مشرعا بذلك «لمنع الاختلاط» بين الجنسين في العمل، في حين ان الاسلام قد شرع «الخمار» وليس «الحجاب» ـ كما يفهم خطأ في الفقه واللغة ـ من اجل الاختلاط، فالخمار لم يشرع للمنزل وبين الاهل «المحارم» ولكن شرع من اجل «الاختلاط المحتشم». رفض الوالي منطق الاختلاط الاسلامي المحتشم ومداراة زينة المرأة بالخمار الذي يضربنه على جيوبهن، وأصر على طردهن من العمل مع خمارهن «خُمُرهن» بلغة ادق. فحرم ما أحله الاسلام وقطع أرزاق الأسر، ومن بينهن من يعول اليتامى.
كانت تلك «نازلة» من النوازل، وتشويها في الوقت نفسه للإسلام واحكامه، كأن فترة نميري ومساهمته الرئيسية والاولى في صوغ شريعته لم تكن تكفي.
والنازلة الاخرى جاءت من حيث «التوقيت» فبتاريخ 7 سبتمبر من العام 2000 وبذات توقيت صدور قرارات الوالي كان الرئيس عمر البشير قد غادر الخرطوم إلى نيويورك ليلقي للمرة الاولى كلمة الانقاذ في المنبر الدولي للجمعية العامة للامم المتحدة، بهدف اساسي هو «تحسين صورة» حكم الانقاذ والاسلام.
وبذات يوم مغادرة الرئيس إلى نيويورك غادر وفد الاتحاد النسائي التابع للإنقاذ الخرطوم إلى جنيف لحضور مؤتمر نسائي دولي للبحث في «حقوق المرأة والطفل».
إذا «نازلة» وتبعها «قاصمان»، الاولى في الخرطوم نفسها وتابعاها باتجاه منابر دولية في نيويورك وجنيف.
اصدرت بيانا بوصفي امينا عاما لحركة سياسية سجلتها في الخرطوم وفقا «لقانون التوالي» تاريخ 23 فبراير 1999.
اختصرناها في عبارة «حسم» ترميزا للحركة السودانية المركزية للنمو والوحدة والتحرر مطالبا بفصل ولاية الخرطوم بوصفها عاصمة قومية عن النظام الولائي وادارتها «مركزيا» من قبل الدول الاتحادية لانها مقر السفارات الاجنبية ودوائر الدولة المركزية وذلك بتاريخ 8 نوفمبر 2000.
ثم أبرقت إلى الرئيس البشير في نيويورك طالبا «الطرد الفوري» للوالي بذات التاريخ فيما كانت التظاهرات تحاصر مبنى بعثة السودان الدائمة في الامم المتحدة. ثم اوضحت سلبيات النظام الولائي في السودان كله عبر لقاءات صحافية ومحاضرات.
الإصرار على علمانية
العاصمة وليبراليتها
بقيت مصرا منذ العام 2000 على «قومية» العاصمة وعلى «علمانيتها» و«ليبراليتها» لأن «البديل» الاسلامي ليس «اسلاميا»، وليس مراءاة أو تزلفا لأنصار الحضارة الغربية ومبادئها ولكن حرصا على الإسلام نفسه، ثم حرصا على حقوق العاملات السودانيات وقد دعمت كل الصحف السودانية موقفي ذلك، لا بحكم حجمي ولا حجم التنظيم الذي انتمي اليه ولكن بحكم «حجم الموقف» ودلالاته الاسلامية والفكرية والسياسية، واحيل القارئ إلى افتتاحيات الصحف وعناوينها الرئيسية في صفحاتها الاولى، ومن بينها:
(الرأي العام ـ عدد 1098) والرأي الآخر ـ عدد 1314) و(الوفاق ـ عدد 2000) جميعها بتاريخ 9 سبتمبر 2000.
إن العلمانية والليبرالية هما مهرب «العقلانية الاسلامية حين «تؤدلج» الحركات الاسلامية باتجاه «لاهوتي» وعبر آلية استبدادية مع الإبقاء على الفارق المنهجي والفلسفي بين عقلانية الاسلام وتركزات العلمانية والليبرالية الغربية.
بل إن «العقلانية الاوروبية» الغربية نفسها ـ لدى مبتدأ ظهورها في القرن السادس عشر ـ لاذت بالعقلانية الاسلامية التي كان يجسدها فكر «ابن رشد (1126 ـ 1198م) وبالذات في جامعة «فلورنسا»، إذ اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية أن الرشديين الأوروبيين هم الاكثر خطرا على اللاهوت من «الملاحدة». لأنهم كانوا يدعون الى الاتساق بين الحكمة العقلية والاحكام المساوية ويميلون إلى منطق ارسطو. وقد جاء الوقت لتلوذ العقلانية السماوية بهذه العلمانية والليبرالية الاوروبية مع فارق النهجين والنسقين. لهذا قلت وقتها إن علمانية الخرطوم «ضرورة اسلامية».
الإنقاذ على نهج نميري
استغرب كثيرون اصرار الكثير من قادة الانقاذ على انهم يجسدون نهج نميري ففي لقاء الرئيس البشير بتاريخ 18 رمضان المبارك والموافق 23 نوفمبر 2002 ولدى مخاطبته مجموعة من موظفي وزارة الارشاد والثقافة قال نصا: «إن ما بدأه البشير جعفر محمد نميري بتطبيق الشريعة في هذه البلاد، وإراقة الخمور لن نتراجع عنه ابدا بعد ان رويناه بدماء شهداء الانقاذ». وكذلك اشاد نائبه الاول من قبل بنظام حكم نميري، وقام المؤتمر الوطني (حزب النظام) بحشد انصاره للاحتفاء بمقدم نميري إلى السودان بعد ان لفظه للشعب السوداني في انتفاضة ابريل/ نيسان 1985، فردوا له الاعتبار عوضا عن محاكمته. كما استوعبوا معظم عناصره في اجهزتهم بما في ذلك من نقل «الفلاشا» إلى اسرائيل:
إذا، يعتبر الانقاذيون انفسهم «ورثة لنظام نميري» وقد سبق ان برروا قيامهم بالانقلاب العسكري في 29 يونيو 1989 على أنه «رد إسلامي» على «التجمع العلماني» حين تداعى إلى القصر الجمهوري أثناء النيابية البرلمانية الثالثة (1986 ـ 1989) حوالي تسعة وعشرين حزبا ونقابة في فبراير 1989 واتفقوا على إصدار اعلان عن (برنامج انتقالي) يمهد لمؤتمر دستوري جامع تقرر تاريخه في الرابع من يوليو 1989 وكان من بين قراراته إلغاء «قوانين نميري» وهي في الحق قوانين الترابي وتلميذه علي عثمان.
ثم عززت القوات السودانية المسلحة تلك القرارات الصادرة في فبراير بمذكرة تحذيرية لحكومة الصادق المهدي مباشرة بتاريخ 27 فبراير بعد ايام على مؤتمر القصر، وقد كان الصادق متحالفا مع الجبهة الاسلامية. وقد احتوت مذكرة الجيش على تفصيل دقيق للاوضاع المأسوية في جنوب السودان. فما أحدثه «الإنقاذيون» من انقلاب في 26 يونيو 1989 ، هو تحرك مضاد لتحرك العلمانيين والجيش في فبراير من العام نفسه، ولهذا كانت اولى مهماتهم تصفية القوات السودانية المسلحة وتحويلها إلى «جيش حزبي» مع إنشاء مليشياتهم خصوصا باسم «قوات الدفاع الشعبي». فالانقاذ هو استمرار «لنهج» نميري ولكن من دون نميري ويتواصلون مع «ارثه» في قوانين سبتمبر 1983 ولهذا فإن معركة العاصمة ان تكون «قومية علمانية» أو «ولائية حزبية» ناشئة منذ 8 سبتمبر 2000 وليس بعد «مشاكوس». او ناشئة عن «قوانين نميري» والترابي وعلي عثمان بداية من سبتمبر نفسه ولكن العام 1983.
لا يستمعون حتى للموالين
أكدت «علمانية» العاصمة من ناحية «قوميتها» للجميع من ناحية أخرى حرصا مني على الإسلام الذي التزمه منهجا دينيا وفلسفيا - بحمد اللّه - وفي هذا الاطار ان تسجيلي ضمن «قانون التوالي السياسي» للحركة السودانية المركزية للنمو والوحدة والحرية (حسم) بتاريخ 23 فبراير 1999 وذلك بعد «مؤتمر وفاق» ومصالحة مع الانقاذ جمعني مع الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي الشريف زين العابدين الهندي في دمشق بتاريخ 17 مايو/آيار 1997م، وطرحنا عدة مبادئ تضمنها (اعلان دمشق للوفاق) بتوجه ديمقراطي وتعددي. وبموجب ذلك كان تأسيس (حسم) في السودان، إذ وجدنا في نظام التوالي السياسي مجرد «ثغرة في حائط مسدود» يمكن توسيعها تدريجيا «مقالاتي بالعنوان نفسه» في صحيفة (الحياة) - 3 حلقات - 10 و11 و12 أكتوبر/ تشرين الأول 1997 - الأعداد 2/3/1264» وألقيت قبل شهر وأسبوع من تسجيل الحركة محاضرة في «مركز الدراسات الاستراتيجية» في الخرطوم بتاريخ 13 يناير 1999 أمها جمع من الدبلوماسيين الأجانب والعرب والمثقفين السودانيين أوضحت فيها «ثغرات» هذا النظام من جهة و«ضرورات» الأخذ به من جهة أخرى بحكم «الأمر الواقع» من ناحية وبحكم الرفض للمعارضة الدموية المسلحة من ناحية أخرى من أن تلك المعارضة المسلحة كانت تنطلق من ارتيريا وكنت وقتها «مستشارا» لدولة ارتيريا نفسها.
فشلت تجربة حركة «حسم» لتوسيع الثغرة، وأغلق الحائط على نفسه نهائيا بموجب قرارات المؤتمر الوطني (حزب النظام) الصادرة لتكريس الأحادية بتاريخ 20 سبتمبر 2000م. وبموجب اجهاضهم لأعمال «اللجنة التحضيرية للوفاق الوطني» بتاريخ 20 اكتوبر 2000 فعمدت إلى حل الحركة (حسم) بيان الأسباب الموجبة بتاريخ 21 أكتوبر 2000 فهذا النظام لا يمكن التعامل معه الا باسلوب وأدوات من طبيعته. بذلك انتهى ما كان بيني وبينهم في اعلان دمشق العام 1997م، ولكن مازلت آمل في «بعضه» عسى ألا يظلوا كخضراء الدمن»
العدد 85 - الجمعة 29 نوفمبر 2002م الموافق 24 رمضان 1423هـ