العدد 844 - الإثنين 27 ديسمبر 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1425هـ

لماذا اهتمت الصحافة الخليجية والإيرانية بهؤلاء؟

(قاضي هبهب)... ضد ديفيد وبرنارد

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

الاسمان ديفيد بلانكيت، وبرنارد كيرك، تداولا على نطاق واسع في الصحافة الشرق أوسطية، ليست العربية فقط، ولكن الإيرانية أيضا التي اطلعت عليها من خلال الشبكة الدولية في الأسبوعين الماضيين.

لفترة أسابيع كانت الأخبار عن الاثنين هي خبز ومرق الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة. فمن هما هذان الشخصان؟ ولماذا تجشمت وسائل إعلامنا كل هذا العناء كي تتناول سيرتهما بالتفصيل؟ والأهم... ما علاقتهما بقاضي هبهب؟!

الأول ديفيد بلانكيت، هو وزير الداخلية البريطاني الضرير، ويقال (الجبار) فقد كان الساعد الأيمن لرئيس الوزراء البريطاني، وخصوصاً عندما ارتفعت موجة الانتقاد له بسبب مساهمته المتحمسة للحرب على العراق. كان بلانكيت هو العضد الصلب والمدافع الشرس عن خطة بلير، فقد صرح أكثر من مرة بأن رئيس الوزراء البريطاني لديه معلومات لم تتوافر حتى للوزراء البريطانيين. طبعاً، كان بلانكيت وزيراً للداخلية، وبصفته تلك كانت المعلومات المخابراتية تمر من خلال مكتبه، فهو للعامة أعرف بما يقول.

ذاك الرجل (75 سنة) والضرير منذ المولد الذي تدرج في العمل السياسي البريطاني حتى أصبح وزيرا للتعليم، ثم وزيرا للداخلية، وكان مرشحاً قوياً ليخلف طوني بلير في رئاسة الوزراء، وقع في مأزق، وهو اتهامه بالتدخل لتسريع مرور طلب تأشيرة لمربية أطفال صديقته السابقة ومن أصل أميركي (كيمبرلي كوين)، وهي ناشرة لإحدى المجلات المحافظة في بريطانيا.

دخل بلانكيت في معركة مع الصديقة السابقة بشأن حضانة طفل ادعى أنه من صلبه، ولم تكن تلك المعركة ذات بال أو تأثير كبير في الرأي العام البريطاني. لكن ما قصم ظهر البعير، هو أن الرجل الذي وصف نفسه بالمحافظ على الثقة والاستقامة والصراحة كسياسي وكرجل، قد منح صديقته الأميركية، تذكرة قطار مخفضة التي يتعامل بها فقط أعضاء البرلمان وأسرهم، ولم تكن الصديقة من الأسرة بالمعنى المتعارف عليه، فقدم الوزير صديق رئيس الوزراء ورفيقه الاستقالة من منصبه الرفيع من دون تأخير، وخسر شقاء عمره السياسي!

أما برنارد كيرك، فهو رجل شرطة قديم، قدم خدمات للإدارة الأميركية، وكان من بين أعماله في الفترة الأخيرة مستشار لوزير الداخلية العراقي، وقد قرر الرئيس الأميركي جورج بوش، فور انتخابه الثاني، ترشيح برنارد كيرك وزيراً لوزارة الأمن الداخلي ذات السلطات الواسعة، واجتاز رئيس شرطة نيويورك السابق كل الاختبارات السياسية المقررة في مثل هذه الحالات، إلا اختبارا واحدا، وهو استخدامه غير القانوني لإحدى الخادمات المهاجرات وتخلفه عن دفع ضرائب عن عملها، ولهذا اعتبر كيرك غير لائق لتولي المنصب، ولهذا السبب اعتذر كيرك عن المنصب المهم، بعد أن كان أمضى أكثر من عام في العراق، ينظم قوة الأمن هناك ويسدي لبلاده خدمة جليلة!

وكيرك في بغداد لم يخل عمله من الطعن، فقد سمته إحدى مقالات نشرت في العراق، أنه (قاضي هبهب) الأميركي في بغداد. وهو مثل شعبي يستخدمه العراقيون للسخرية، ويقال إن أصله حكاية واقعية بطلها حميد القاضي، الذي عين قاضياً في مطلع القرن الماضي، وكان يعتاش على الدعوى بين الخصوم، ولكن بسبب إدمانه قاطع سكان هبهب دار القضاء، فخرج حميد بالمحكمة إلى سوق المدينة، وكل مار أو متسوق، يسأله عن هويته، وما إذا كان دائناً أو مديناً، فإن لم يكن هذا ولا ذاك، قال لكاتب المحكمة: سجّل لا مشكلة، يدفع غرامة درهما واحدا!

مقارنة (قاضي هبهب) ببرنارد كيرك، لم آتِ بها عبثا أو لمجرد سرد طرفة، فهي ذات مغزى، وبصرف النظر عما فعله كيرك في العراق أو لم يفعله، لقد حُرم من المنصب الكبير بسبب خرقه للقانون السائد، كما كانت نتيجة ديفيد بلانكيت البريطاني.

في بريطانيا وكذلك أميركا، دفعت السلطة بمجموعة من القوانين المستعجلة لمكافحة الإرهاب، كان بعضها قاسياً ومتسرعاً. وبسبب فصل السلطات المحترم دائما فقد عطلت المحاكم هنا وهناك، تنفيذ بعض تلك القوانين المشرعة من المجالس المنتخبة بسبب ما رأته من خرق للحريات الطبيعية للبشر، فلم يكن قاضي هبهب موجوداً هناك.

أما المقارنة الثانية التي تستحق وقفة، وهي أن تتدفق كل هذه التشنيعات على مستشار وزير الداخلية العراقي الأميركي من عراقيين اليوم، في الوقت الذي لم يكن بالمستطاع رفع عين واحدة أمام مخبر عراقي في العهد القديم، ما بالك بمقارنة «مستشار وزير داخلية» بقاضي هبهب! انها تهمة تؤدي بصاحبها هو وأهله إلى المقصلة! أما الحرية الجديدة في بغداد فإنها تسمح بالنقد وربما بالتجريح أيضا.

نعود إلى إكمال الصورة، فقد تداخلت مجموعة من الأخبار ذات الصلة، منها أن محامي الرئيس العراقي السابق صدام حسين قد قابله، ومن ضمن ما نقله المحامي إلى وسائل الإعلام، أن الرئيس قد أكد له أنه لم يقبض عليه في «حفرة» بل قبض عليه وهو يصلّي صلاة المغرب في بغداد. قد نحتاج إلى محلل نفسي لفك هذه (الرمزية) في الادعاء، ونستعيد كلمات بلانكيت في الثقة والاستقامة والصراحة لرجل السياسة!

من جانب آخر نشر فيما نشر أن زوجة طارق عزيز قد أرسلت رسالة إليه نشر نصها، قالت فيها إنها لم تجد أحداً كان مستعداً للمساعدة، فقد تفرّق الأصحاب.

وكان نقل لي منذ زمن صديق أثق بقوله - ولايزال حياً يرزق، وكانت زوجة الصديق وزوجة طارق عزيز مدرستين في المدرسة نفسها في الثمانينات من القرن الماضي - إنه بعد اشتداد وطأة الحرب العراقية الإيرانية، أسرت زوجة طارق عزيز لزوجة الصديق، أنه في حال الطوارئ، ترجوها أن تقبلها والعائلة كي تختفي لديها بضعة أيام حتى تدبّر نفسها! ذلك (توقع) من أولي الأمر، إن النظام بأكمله وبسبب أفعاله غير مستقر، يخطّط كبار قادته لملاذ آمن لأسرهم!

تلك صورة وهذه صورة، والعاقل من يستطيع أن يستخلص الحكمة أو الحُكم من كل ذلك. انها قصة مسارين، واحد يخطئ الخطأ العام فيفقد منصبه، لكنه لا يفقد روحه، حتى لو كان ذلك الخطأ بسيطاً في عرف كثيرين، وآخر ينسى أو يتناسى أن هناك يوماً سيأتي، يتساءل الضحية فيه: بأي ذنب قتلت! سردت على صديقٍ حيرتي في النقص الفادح في الوعي لدى كثير من أهل السلطة، بأن الدنيا متغيرة، وأنها يومٌ لك ويومٌ عليك، فنظر لي ملياً، وقال: «ألسنا ذلك الرجل جميعاً؟ ألسنا نعتقد أن يوم الانتقال إلى رحمة الله لن يأتي لنا، فقط سيأتي لغيرنا؟!».

تظاهرت بالموافقة، ولكني لم أقتنع لماذا «هم» يتوقعون يوم الحساب، ونحن الذين يضج تراثنا بيوم الحساب لا نكترث به، ثم فطنت أن يوم حسابهم معجل على الأرض ونعتقد خطأ أن يوم حسابنا مؤجل. ذلك هو الفرق الذي يجعل الاستهتار بحقوق الناس وأرواحهم سهلاً يسيراً، كما يجعل قاضي هبهب واسع الذمة عندنا، أما قضاة الرأي العام عندهم، فالصالح العام هو الأبدى. ( انتهى)

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 844 - الإثنين 27 ديسمبر 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً