الآن وبعد أن سنحت الفرصة للمواطن العربي (الفلسطيني) - بعد الكثير من التلكؤ والتأخير وطول الانتظار - وبعد أن سنحت فرصة تاريخية فريدة، وبعد نزاعات طويلة وفرص ضائعة وخسارات مؤلمة واحتقانات مريرة؛ الآن وبعد أن جاءت الفرصة لأن يتقدم أكثر من متقدم مترشح عربي لسدة الحكم والرئاسة،... أما آن الأوان في بلاد العرب أن تعطى «للديمقراطيا» ولو حتى نصف فرصة؟
أليس من المنصف أن يجد الإنسان العربي فرصة حقيقية لممارسة شيء من المشاركة حتى ولو في نوع واحد من أنواع القرار المتصل بمصيره: الانتخاب؟!
فعندما نسمع بإجراء «الانتخابات» في هذا القطر أو ذاك، فإنا نلاحظ في الغالب الأغلب المحاولة المستميتة تلو المحاولة، للحيلولة دون توافر أكثر من مترشح واحد أحد! بل نجد أن لعدد من الجهات الخارجية أيضاً أصابعَ وألسنةً تدفع إلى تأكيد أحادية و«وحدانية» الترشح (وكأنه ليس هناك من «جولة ثانية» تصفوية ربما يتمكن معها الناخب العربي من «تصفية» الاختيار بين أعلى اثنين من المترشحين).
لقد سئمَ العرب فكرة «الزعيم الأوحد»، ومَجّوا تأليه الحاكم الجاثم. وفي المقابل، يبدو أنهم بدأوا يستوعبون، بل وربما من كثرة ما سمعوا وشاهدوا، أنهم بدأوا يتشربون رؤية ما تتداوله وسائل الإعلام (خصوصاً المرئي منها) صفوف وطوابير «المقترعين»، وفي رواية «الناخبين»، وفي رواية أخرى، «المصوتين»... تلك الطوابير بعد الطوابير المنتظرة بصبر وشوق «للإدلاء بأصواتها» ولممارسة الحق المقدس لمحاولة تشكيل ولو جزء من مصائرهم.
إن من المحزن جداً أن نجد عدداً من الساسة ومنظمي «الانتخابات» الشرقيين عموماً، والعرب خصوصاً، لا يطيقون غير الرأي الواحد؛ ولا يرتاحون إلاّ لمسلسل الزعامة التسنمي الأحادي؛ وحتى حينما يسمح القائد للمقودين بالتصويت - وفي رواية «بالاستفتاء» - فإنه يود لو أن تأتي النتائج (مجللةً) بالإجماع التام، أو في أقل اعتبار بمستوى 99,99 في المئة! حتى ولو ظل قبلها متسنماً كرسي الزعامة لعقود مستطالة وكأنها مستدامة... وحتى لو استنفد قواه الجسمية وغير الجسمية، وحتى لو بلغ من السن عتياً، وحتى ولو ظهر للناس بالصوت وأيضاً بالصورة، أن فترة صلاحيته قد انتهت.
بالأمس القريب تردد في وسائل الإعلام أن القائد الفلسطيني الشاب، وهو رهين المعتقلات الإسرائيلية مروان البرغوثي، أنه أقدم على الترشح للمنصب الرئاسي الفلسطيني؛ ثم سرعان ما أشيعت الشائعات عن سحبه طلب الترشح؛ ثم عاد مروان - ولو لفترة وجيزة - فعقد العزم على المضي قدماً في الترشيح فكلف زوجته لتقوم بمهمة تقديم أوراق الترشيح (وكان ذلك في «الساعة الأخيرة»، حرفياً) قبيل قفل باب الترشح. ثم لقي ما لقيه من العنت والتوبيخ، وأيضاً المطالبة بالانسحاب من الحملة الانتخابية... بل وحتى التهديد!
وأتت الضغوط من «الداخل»، وتكالبت عليها ومعها من «الخارج» أيضاً ضغوط عربية وإسرائيلية ودولية، عليه وعلى غيره. فجاء في أحد عناوين الأخبار: «مصطفى البرغوثي مرشح الرئاسة (هكذا) يتعرض لاعتداء ويدخل المستشفى»، ويبدو فيما قيل هنا ان حادث الاعتداء جاء من العدو الإسرائيلي، فكان مصطفى من بين العشرة الذين تقدموا للترشح ولاقى عدد منهم أنواعاً من الاعتداء، معظمها جاء من العدو الإسرائيلي.
ثم نجحت «الضغوطات» (بدأنا نلاحظ حديثاً للأسف أن صار عندنا في هذا مضمار معاناة المواطنين صيغة «جمع» جديدة لصيغة الجمع «ضغوط»!) في الأسبوع الثاني من ديسمبر/ كانون الأول 2004م - للأسف الشديد - على مروان البرغوثي لسحب ترشحه في الانتخابات المقرر إجراؤها مع مطلع السنة المقبلة في التاسع من يناير/ كانون الثاني 2005، وذلك بعد قيام زوجته بعد أن كانت قد قدمت طلب الترشيح أصلاً نيابة عنه، بسحب الطلب بعد مضي أقل من أسبوعين.
فبهذا لم يعط أحد الشبيبة من كوادر القادة الواعدين، ولو حتى الفرصة ليحرك جزءاً من المياه الراكدة العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً؛ ولو حتى ليثبت وجوده هو، وليقول أنا لاأزال هنا كإنسان؛ ولو ليأخذ فرصة ليثير انتباه وسائل الإعلام في العالم - بل والعرب، وأيضاً انتباه ممن تقادمت أخباره عندهم حتى من الفلسطينيين - إلى وضع اعتقاله المتطاول ومسجونيته المريرة؛ ولو لتمكينه من أن يضع قدمه على سلم القيادة للأجيال القادمة، بعد أن وصل عدد من القادة المسنين (ممن قضى نحبه وممن ينتظر) فئة «الختيارية»/ «الشُّـياب»... ممن قارب منهم مرحلة أرذل العمر ومستوى التكلس.
ما ضَـرَّ لو ترشح أكثر من مترشح عربي؟ وما ضر لو حاول إنسان منافسة الزعيم الواحد الأحد؟ ما ضر لو تسببت الحملة الانتخابية في إعطاء فرصة للنقاش ولتبادل الآراء؟ ما ضر لو احترمنا و لو مرة واحدة، أنفسنا، وسمحنا للناس بالاختيار الحر؟ ما ضر لو تقاسم المترشحون - عند تعدديتهم - مجموع ما جاء في «الأصوات» (فتتبعها جولةٌ ثانيةٌ تصفوية)؟ و... ما ضر لو جاء المرشح الأكبر بأقل من 99,99 في المئة؟!
إنه ليس من شأني التعرض حتى بالقول عمَن من المرشحين يستحق أن يحقق تبوأ سدة القيادة الفلسطينية، فهذا هَـمُّ وشأنُ الفلسطينيين حصرًا؛ ولكن يحزنني، بل ويؤلمني كمواطن في هذه الأمة، أن لا تتوافر للمواطن فرصة حقيقية للتعددية الحقة؛ وألا يجد المرء ولا يتمكن من حق وفرصة الاختيار
العدد 843 - الأحد 26 ديسمبر 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1425هـ