العدد 843 - الأحد 26 ديسمبر 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1425هـ

انطلاق جلسات الاستماع لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب

في سابقة من نوعها عربياً ووسط اهتمام إعلامي:

المصطفى العسري comments [at] alwasatnews.com

في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم العربي والإسلامي انطلقت مساء يوم الثلثاء الماضي بالعاصمة المغربية الرباط سلسلة جلسات الاستماع العامة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي أقرتها هيئة الإنصاف والمصالحة المشكلة من حقوقيين ومعتقلين سابقين وبرعاية من الملك المغربي، والتي تمتد على مدى شهرين عبر عشر مدن مغربية.

في الجلسة الأولى تم الاستماع إلى ست شهادات بمواكبة إعلامية مغربية وعالمية، وبمتابعة عدد من المنظمات والهيئات الحقوقية المحلية والدولية وبحضور زعماء الأحزاب السياسية المغربية، وكذلك أقرباء وأصدقاء من اختيار الضحايا.

الجلسة التي بثتها بشكل حي ومباشر القناتان الأولى والثانية وفضائية «المغربية» والقسم العربي بالإذاعة المغربية، افتتحت بتقديم لرئيس هيئة الأنصاف والمصالحة المعتقل السياسي السابق إدريس بن زكري أبرز فيه الفلسفة العامة لهذه العملية.

في الشهادة الأولى أبرز المعتقل والمختطف السابق جمال أمزيان عن فصول المعاناة التي عاشتها أسرته من خلال احتجاز حوالي 30 من أفرادها بسبب مشاركة رب الأسرة محمد سلام أمزيان في حوادث تمرد منطقة جبال الريف (شمال المغرب) بين العامين 1958 - 1959.

واستهل أمزيان شهادته التي تابعها ملايين المشاهدين داخل المغرب وخارجه بالترحم على «كل من قدم نفسه ومعه ذووه قرباناً لهذا البلد الأمين»، معبرا عن الامتنان لكل من ساهم في «هذه التحولات التي يشهدها المغرب». وقال إن ذنب والده الذي صدر في حقه حكم بالإعدام اضطره إلى الاغتراب، هو أنه «قال لا للظلم والجبروت وللمنطق الأحادي، ولا لاستقلال جزئي تفاوضي وقال علانية نعم لاستقلال تام، لمغرب حر بمؤسسات منتخبة بنزاهة وديمقراطية».

وأضاف أمزيان أن تقديمه لهذه الشهادة فرض عليه «تجاوز عوائق عدة منها ما هو وجداني ومنها ما له علاقة بمدى أهمية هذه الشهادة كأرضية ستؤسس أعمال المهتمين من مؤرخين وساسة وحقوقيين ومناضلين ومنظرين وأصحاب قرار».

وتحدث أمزيان عن الفترة التي ترعرع فيها في ظل المعاناة التي عاشتها أسرته على مدى أربعين سنة ومحاولة الإجابة عن استفسارات كثيرة من قبيل: «هل ما حدث كان يستوجب ذلك التدخل العنيف؟ وأي جرم ارتكبته الزوجة والأبناء والأخوات وأبناؤهن والجدة حتى يساقوا كرهائن إلى المعتقل»؟

وتساءل أمزيان عن «أي ذنب جناه الأبناء في أولى مراحل تشكل وعيهم وذاكرتهم محاطين بالأسوار العالية، في حيّز لا يسمعون فيه إلاّ أوامر المنع والتحذير».

كما تحدث أمزيان عن الظروف التي رافقت أول لقاء له بوالده في أحد أيام صيف العام 1981، وعن صدمة تلقي خبر وفاة الأب في شهر سبتمبر/ كانون الأول 1995، ووقع ذلك على الأسرة وخصوصاً الأم التي انتظرت عودته 36 سنة.

وقال أمزيان إنه «على رغم كل ما ورد من ضروب المعاناة فلا يسعني إلا أن أتمنى لجميع الغيورين على بناء مغرب تحترم فيه الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية للفرد والجماعة، الكشف عن حقيقة ما جرى من انتهاكات جسيمة وجبر الأضرار للضحايا، والعيش في سلام وأمن... ومستقبل لا نريد فيه عنفاً وعنفاً مضادا وتهميشاً ومؤامرات».

الشهادة الثانية كانت للمعتقل الغالي بارا الذي تحدث عن جوانب من المعاناة التي واجهها على مدى أكثر من 15 سنة من الاعتقال، إذ قال إنه عانى منذ سنة 1976 بسبب «أحداث الصحراء»، من سوء المعاملة إذ كان يرحل من سجن لآخر، «مكتوف اليدين ومعصوب العينين». وأشار إلى أن المنطقة التي ينحدر منها تعرضت أيضا خلال فترة اعتقاله لما أسماه بسياسة «الأرض المحروقة» التي راح ضحيتها جميع حيوانات المنطقة فضلا عن إحراق الأشجار وأثاث وخيم عائلات المعتقلين. وقال «إنه اصطدم بعد الإفراج عنه بواقع مرير إذ كان عليه مواجهة الفقر والحاجة لمدة عشر سنوات إلى أن تم إحداث هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاعتقال التعسفي التي أعادت الاعتبار إليه».

الشهادة الثالثة كانت للمعتقل السابق شاري الحو، عن معاناته في المعتقلات بعد تعرضه للاختفاء القسري سنة 1973 والتي قال إنها حفرت ندوبا عميقة في ذاكرته. وقال الحو «إن الانتماء (الحزبي)، خلال تلك الفترة، كان رديفا للاعتقال».

وتطرق الحو أيضا إلى معاناته في المعتقلات، قائلاً: «كنا نقضي 24 ساعة ونحن ممددين فضلا عن نقص التغذية... ومن كان يتوفى منا يتم سحبه من المجموعة... وكان المريض يتألم إلى أن يلقى حتفه، على مرأى من رفاقه الذين لا يستطيعون له شيئاً... وكنا مجموعة تضم 14 محتجزا توفي منا 7 أثناء الاحتجاز وأربعة آخرون بعد إطلاق سراحهم».

الشهادة الرابعة كانت للمعتقل أحمد بن منصور المعتقل في الستينات، مبرزا أن هذه «الحوادث المأسوية التي عاشها المغرب اكتوى بنارها جمع غفير من المواطنين الأحرار» وأنها «خلفت عدة ترسبات في وعي ووجدان كل مواطن شريف»، ومذكرا بأنه في الخمسينات من القرن الماضي، تعرض بعض رموز الحركة الوطنية في المغرب إلى «حملات رهيبة من طرف قوات البطش والغدر، على يد القوة الظلامية، التي امتدت إلى قيادة المقاومة وجيش التحرير فأودع السجن بعض رجالاتها الأفذاذ الذين دوخوا الاستعمار بكفاحهم وبطولاتهم النادرة».

وأشار بن منصور إلى منع الصحافة التقدمية من الصدور، وملاحقة الأحرار في مختلف المدن والقرى، وإبعاد الكثير من الشرفاء عن وظائفهم. وأوضح اعتقال مجموعات من المقاومين الاحرار، وصدرت أحكام بالإعدام ضد بعضهم وبالسجن لمدد طويلة ضد البعض الآخر.

الشهادة الخامسة قدمها رشيد المانوزي، الذي اعتبر أن طي صفحة الماضي لن يتم إلا إذا تم التخلي نهائيا عن الأساليب المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب واحترام جميع التعهدات والمواثيق التي سبق للدولة أن التزمت بها ومساءلة مرتكبي تلك الانتهاكات.

وأضاف المانوزي «إننا نعيش اليوم ظرفا دقيقا وحاسما بالنسبة للديناميكية التي يعرفها مسلسل الحل الشامل لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب وهو الظرف الذي يخاطب كل واحد من أفراد الشعب سواء ضحايا سنوات الرصاص والقوى الحية أو المسئولين على هذه الانتهاكات، لكي نضع أسسا لحل هذا الرصيد السلبي مبنية على الحقيقة الكاملة والعدالة والإنصاف»، مستعرضا مساره كضحية وعائلته لسنوات القمع، وان هذه المعاناة مازالت مستمرة إلى الآن بالنظر إلى كون مصير شقيقه الحسين المانوزي الذي اختطف بتونس سنة 1972 مازال مجهولا ولا يعرف بعد ما إذا كان حيا أو ميتا».

وأكد أنه لكي يكون لكل شهادة بعدها التربوي فإنه لا ينبغي لها أن تخضع لأي شرط أو قيد، لأن أهميتها تكمن في شعور الشخص أنه حر في تعبيره من دون إكراه، مذكرا بأنه تعرض للاعتقال سنة 1970 حينما كان في طريقه لاجتياز امتحانات البكالوريا من طرف ثلاثة أشخاص مجهولين كانوا على متن سيارة اقتادوه نحو مكان مجهول، اكتشف انه في معتقل كان يوجد فيه والده واخوته والعشرات من أفراد عائلته المخطوفين قبله»!

المانوزي وفي شهادته ذكر بأنه تعرض بالمعتقل إلى الحرمان من النوم والاعتداء الجنسي أيضاً، وقال إنه يعتبر معتقل درب مولاي الشريف «جهنم فوق الأرض»! ودعا الجلاوزة إلى تحرير ضميرهم والمساهمة بدورهم في إبراز الحقيقة وفتح المجال أمام إمكان المصالحة الشاملة. وأضاف أنه استمرت ملاحقته بعد خروجه من السجن، ما دفعه إلى مغادرة الوطن إذ قضى 25 عاماً في الغربة والبعد عن العائلة التي عانت من العزلة والاضطهاد والحرب النفسية.

الشهادة السادسة كانت من نصيب سيدة هي فاطمة آيت التاجر «المعروفة بأمي فاطمة» والدة حسن السملالي المعتقل السابق سنة 1974، والتي أكدت أنها عانت الأمرين على المستويين المادي والمعنوي عند محاولتها معرفة مصير أبنائها المعتقلين ومطالبتها بالافراج عنهم.

وأضافت فاطمة «أن المجموعة التي اعتقلت مع ابنها تعرضت إلى الاختطاف ولم تتعرف العائلات على مكانها إلا بعد مرور سنة وثلاثة أشهر، وانها لم تكن تدرك ما إذا كان ابنها ميتا أو مازال على قيد الحياة. وأضافت أنه بعد اعتقال ابنها أصبح البيت مراقبا باستمرار مع تعقب أفراد الأسرة. وبدأت عائلات المعتقلين تتعارف فيما بينها وتتآزر خصوصاً أن بعضها يتحمل مشاق السفر من مناطق بعيدة لزيارة ابنائها في المعتقلات المغربية، ما يكلفها مصاريف باهظة تعجز هذه الأسر عن تحملها بسبب وضعها الاقتصادي المتردي.

وبعد كل ما قاسته العائلات من مشاق، طالبت الأسر بالمحاكمة، عبر إعلان إضراب عن الطعام. وتم الاتصال بالمسئولين بمن فيهم عامل إقليم الدار البيضاء آنذاك إذ نفذن اعتصاما في الشارع العام ما عرضهن الى الاعتقال لمدة 29 ساعة على رغم وجود امرأة يناهز عمرها 80 سنة ضمن المجموعة. وأضافت أن المحاكمة تواصلت في ظروف قاسية وشابها المنع من الزيارة وقمع العائلات قبل النطق بالحكم ونقل المعتقلين إلى سجن القنيطرة إذ خاضوا إضرابا عن الطعام تجاوز الأربعين يوما أدت إلى وفاة سعيدة المنبهي فيما أصيب آخرون بالجنون، مشيرة إلى أن الأمهات والأخوات كن يقضين الليل أمام باب سجن القنيطرة لمعرفة حقيقة وضع أبنائهن. مذكرة بأن بعض المحامين المآزرين لأبنائهم كانوا يساعدون الأمهات المريضات اللواتي كان يغمى عليهن بفعل الإجهاد والتعب وقلة الأكل.

وتضيف فاطمة آيت التاجر ان الأمهات التجأن إلى الصحافة من أجل إثارة الانتباه لمشكلة أبنائهن المضربين عن الطعام والعمل لوضع حد لمعاناتهم، واعتصمن بجامع السنة بالرباط لقراءة القرآن مطالبات بالإفراج عن أبنائهن فقام رجال الشرطة بالزج بهن في سياراتهم بعد أن أوهموهن بالعمل على توقيف الإضراب عن الطعام، وتعرضن لشتى أنواع الإهانة والعنف وسوء المعاملة ونقلن إلى مخفر بالرباط وحرر لهن محضر وقضين ليلتهن هناك!

وفي الإطار نفسه اعتصمت الأمهات أيضا بمقر وزارة العدل للمطالبة بالعمل على فك إضراب أبنائهن، فاعتقلن مرة أخرى وقضين ليلة بمخفر الشرطة، قررن بعدها التوجه إلى البرلمان الذي دخلنه من الباب الخلفي لأنهن منعن من ولوجه إذ تمت مواساتهن من قبل بعض البرلمانيين ووعدوهن بالنظر في الأمر.

وأشارت إلى أنه تم نقل المعتقلين بعد أن نال منهم الإضراب عن الطعام إلى مستشفى القنيطرة إذ أحيطت المؤسسة بقوات الأمن ومنعت العائلات من الزيارة. وقالت آيت التاجر إنها فتحت بيتها بالقنيطرة لجميع العائلات خصوصاً القادمة من مناطق بعيدة فيما وزع عدد منها على عائلات أخرى، مضيفة أن عددا من أخوات المعتقلين تعرضن بسبب هذه المعاناة ومآزرتهن لإخوانهن إلى الطلاق. وخلصت في ختام شهادتها إلى القول إن عائلات المعتقلين عانت خارج السجن مثل ما عانى أبناؤها الذين لقي بعضهم حتفه مباشرة بعد مغادرة السجن جراء ما عاناه، ومنهم أيضاً من فقد عقله أو بصره.

هذا وستتواصل جلسات الاستماع هذه بالاستماع إلى باقي المعتقلين السابقين، في إطار سياسة «جبر الخواطر» بعد «الجبر المادي» الذي استفادت منه نسبة مهمة من المعتقلين.

وكان إدريس بن زكري قد اعتبر في كلمته التي افتتح بها جلسات الاستماع، أن تنصيب الملك المغربي محمد السادس للهيئة نابع من صميم القناعة بقدرة الشعب المغربي وأحقيته في المشاركة الفاعلة في مسلسل تسوية نزاعات الماضي وفتح طرق المصارحة السياسية والاجتماعية، معتبرا أن مسلسل تسوية نزاعات الماضي بدأ منذ أكثر من 14 سنة، بتشجيع من الملك الراحل الحسن الثاني، وأن كل القوى الحية ساهمت في هذا المشروع كما انخرطت كل فعاليات المجتمع المدني في وضع وتطوير المقاربات الرامية إلى بناء المغرب الجديد المتجدد.

وأضاف بن زكري أن محمد السادس قلد أعضاء الهيئة أمانة استكمال المسلسل لإقرار الحقيقة وإحقاق العدل والإنصاف وجبر الأضرار وتأمين المصالحة، معتبرا ذلك «أمانة عظمى في أعناقنا أمام الله عز وجل وأمام الملك والشعب المغربي نعمل جاهدين على حفظها وأدائها بكل نزاهة وإخلاص قصد التجاوز النهائي لمخلفات الماضي وقصد النهوض بمتطلبات الحاضر والمستقبل من أجل مغرب الإنصاف والعدالة وصيانة الحقوق الأساسية».

كما أكد بن زكري تعاطف الهيئة التام مع المتضررين، معربا عن أمله في تسوية نزاعات الماضي من أجل إشاعة قيم وثقافة حقوق الإنسان بالنجاح التام وذلك بالدعم المتواصل لكل مكونات المجتمع». الجلسة حضرها عدد من الشخصيات البارزة، بينها رئيسا مجلسي النواب والمستشارون بالبرلمان ووزير العدل ووالي ديوان المظالم وأعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.

ودعا وزير الصحة الأطباء أعضاء الوحدة الطبية التابعة لهيئة الإنصاف والمصالحة إلى بذل كل ما في وسعهم للتكفل بالحالات المعروضة عليهم في إطار الجهود المبذولة من طرف الهيئة لجبر الضرر وطي صفحة الماضي، مؤكدا على ضرورة تكثيف الجهود لإنجاح هذا المسعى النبيل في إطار ما تمليه أخلاقيات مهنة الطب والعمل على خدمة المرضى الذين تستلزم حالاتهم مواكبة نفسية وسيكولوجية واجتماعية متأنية.

من جهته أثنى بن زكري على انخراط وزارة الصحة في العمل الذي تقوم به الهيئة منذ بداية إحداثها، مشيرا إلى أن هذا العمل النبيل الذي يعد التفاتة إنسانية من شأنه المساهمة في حل الكثير من المشكلات النفسية والجسدية للضحايا

العدد 843 - الأحد 26 ديسمبر 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً