يبدو أن مقال «الطريق إلى الموت» الذي نشر في هذه الزاوية قبل أيام عدة والذي وجه سهامه (الحادة على ما أظن) إلى صدر «أطباء الموت» في مجمع السلمانية الطبي أثار حفيظة أطباء آخرين، وجدوا أنفسهم مظلومين في تلك الحسبة من التعميم وليس التخصيص، الأمر الذي دفعهم إلى الكشف عن جروح أخرى ظنوا أنفسهم أول المتألمين منها، ووجدنا أنفسنا نشاركهم الهم وربما أكبر منه، ولكننا في الغالب نقف عند تلك المساحة المكشوفة لنا... ولجهلنا بالمتواري خلف الستار لا نجد بدّاً من صب جام غضبنا على أولئك المواجهين لنا (أطباء، ممرضين، وحتى العاملين)، ومن هنا نؤسس للمحاكمة الكبرى التي تضم الظالم والمظلوم، المدعي والمدعى عليه... ولكل مرافعته ويبقى الحكم بيد الواحد الأحد!
ونحن إذ ننقل بلسان حال شريحة كبيرة من المجتمع ليس غرضنا أن نزيد من البون الشاسع أصلاً في الثقة بين المرضى أو المواطنين عموماً وبين المنضوين تحت لواء ذلك المجمع، ولا نشكك أبداً في أنه في الجهة المقابلة لأطباء الموت هؤلاء يوجد أطباء آخرون هم أهل فعلاً للثقة ولهم قدراتهم وخبراتهم ومهاراتهم المشهود لها، ولكن وكما يقال دائماً «التفاحة الفاسدة قد تفسد كل تفاحة جيدة موجودة معها في السلة نفسها»! وللإنصاف وليس التبرير فإن لأطباء الرحمة أيضاً هموماً ثقيلة وخصوصاً بالنسبة إلى من أدرك فعلاً مسئولية مهنته وجوبه بصراع مرير مع الإمكانات الضعيفة والكوادر المساعدة القليلة التي بلاشك تؤثر على عطائه، وتجعله دائماً في موضع شبهة منا نحن كونه - كما ذكر سالفاً - والسائرين وراءه الظاهرين لنا في الصورة!
ولنعط أنفسنا فرصة لنكون شاهد عيان على حال ذلك المجمع «قبلة جميع المرضى في المملكة» من مواقف السيارات إلى حيث يقطن أي مريض رغبنا في زيارته... مواقف السيارات حالها مكشوف للجميع سواء دفعت في ذلك الموقف نقوداً أو لا فما لك إلا الدعاء - هذا إن وجدت ركنا للوقوف أساساً - بالخروج سالماً أنت وسيارتك من دون أي خدش! تسير في ممرات المجمع، كثيرون ومن بداية الممر المؤدي إلى المصاعد يغطون أنوفهم، أو ترى على وجوههم علامات الاشمئزاز والتقزز وهم يجوبون بنظرهم بين أرضية المجمع التي بدأت بالتقلع من جذورها والتي حطمتها كثرة الأقدام جيئة وذهاباً عليها ومنذ مدة طويلة وجدرانه التي اشتاقت لدهان جديد يخفي الطبعات السوداء التي سلبتها رونقها وجمالية اللوحات التي تزدان بها! حتى تصل إلى المصعدين المخصصين للمجمع كله -ولك أن تحمد ربك ليل نهار إن لم يتعطل أحدهما - وهنا احسب من الوقت ربع ساعة على الأقل حتى يصل إليك المصعد الذي سيقلك إلى الطابق الذي تقصد ومعروف مسبقاً بأن حاله أكثر سوءا من المدخل إلى درجة قد تجعلك تتقيأ!... غرفة خاصة، «جمعي»، الحال من بعضه، وإن كان الثاني تزيد عليه تألمات المرضى ضجراً ونكداً وتقززاً، وحذارِ من زيارة دورات المياه المخصصة للجميع، مرضى وزائرين!
الجناح تحكمه ممرضتان فقط!... إن برد مريضك فلا تبادر إلى طلب بطانية أخرى له فإنها غير متوافرة - وهذا عن تجربة شخصية - نوافذ مكسورة تسد بقطعة خشب لا يمكنها أن تحجب الهواء البارد أبداً... تطلب الممرضة فلا تأتيك إلا إذا توجهت إليها واصطحبتها إلى حيث تريد بعد نقاش لا يخلو من حدة... ولا نستطيع أن نلوم أياً من الطرفين فذاك قلبه على مريضه وتلك الله يعينها على جناح بكامله وخصوصاً إن ساقها الحظ لأن تكون في جناح جل مرضاه من المسنين! مريضك قرر طبيبه - الذي بعد انتظار طويل ومشادّة كلامية بينك وبينه أتى لمعاينته - إجراء أشعة مقطعية له... الأشعة موعدها الساعة التاسعة صباحاً ولكنها لم تؤخذ إلا الساعة الثالثة عصراً... طبيب يشخص الحال بالحاجة إلى عملية «آرجنت» والآخر يطمئنكم ويؤجل الموعد... إلخ
ربما يكون ذلك مشهداً اشتركنا نحن والأطباء في حمله، ولو تناولنا الحال كله سيطول بنا المقام والمقال، ولذلك لا نستطيع إلا ذكر ما قاله أحد أطباء الرحمة «إمكاناتنا محدودة جداً جداً... وهذا المستشفى الوحيد في المملكة وما عاد يستوعب كم المرضى المراجعين كل يوم، والموازنة على ما هي عليه إلى درجة أننا نبحث عن سرير شاغر لمريض واحد فلا نجد، والضغط في تزايد على الأطباء وخصوصاً مع اضطرارهم إلى تأخير المواعيد لعدم توافر سرير أو غرفة عمليات شاغرة أو لعدم توافر بعض الأجهزة الضرورية... ومع كل ذلك هل تتوقعون أن يرضى جميع المرضى عن أدائنا؟»... ومن واقع زيارة واحدة للمجمع لا يمكننا إلا أن نقول كلمة حق في هؤلاء الأطباء «بقاؤكم لليلة واحدة في هذا المجمع والحال كما وصفنا ووصفتم لجهاد ستنالون عليه أكبر أجر من عند الله وحده» وما لنا جميعاً إلا الصبر والدعاء إلى الله بفك عقدة الموازنات وإحياء الضمائر الميتة والرأفة بحالنا جميعاً وبناء أكثر من مجمع طبي آخر على الأقل لتوزيع الحمل... وكان الله في عون الجميع
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 842 - السبت 25 ديسمبر 2004م الموافق 13 ذي القعدة 1425هـ