«ليس هناك من بلدين تعمل فيهما سلسلة مطاعم ماكدونالدز سبق أن دخلا حرباً مع بعضهما بعضاً».
الذين يعتقدون أن الأميركيين مازالوا في النظام العالمي الجديد يعتمدون على الاقتصاد الحر وسهولة تدفق رأس المال، وأنهم يبنون سياساتهم الخارجية تبعاً للأبعاد التجارية الدولية فقط، وأن الأميركيين مازالوا يبثون أموالهم في الاقتصادات العالمية المفتوحة، هم تحديداً لم يطالعوا استراتيجيات الخارجية الأميركية خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ ببساطة نمى اتجاه جديد أفضل تمثيله بـ «عسكرة الاقتصاد الدولي».
منذ العام 1995 وتحديداً جنيف يوم وقع ستة وسبعون بلداً، ميثاق منظمة التجارة العالمية طدكانت أولويات السياسة الخارجية الأميركية تعتمد على محور التجارة الدولية المفتوحة والاقتصاد الحر، إلا أن حوادث سبتمبر/ أيلول نقلت الاهتمام من هذه الأولية التقليدية الى اعتبار الأمن القومي هو محور «اللانظام العالمي الجديد»؟
اعتمد النظام العالمي الجديد في منذ عهد الرئيس بوش الأب على أن الدول التي ترتبط فيما بينها بعلاقات تجارية واقتصادية لا يمكن أن تدخل في حروب مع بعضها بعضاً، وأن الاقتصاد الجيد والنظام المالي المفتوح هو الطريق إلى الاستقرار السياسي. وكذا سارت الأمور في عهد الديمقراطي كلينتون بل انتعشت إلى حدود التخمة في مؤسسات المال الأميركية.
إلا أن تقرير استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية الصادر في سبتمبر 2002 قلب الموازين، الأمن وهو تحديداً «أمن تدفق الطاقة» إلى الولايات المتحدة هو في سلم الاعتبارات السياسية للخارجية الأميركية، وهكذا تعمد إدارة بوش إلى تعريف الالتزام الدولي لها بلغة العلاقات الثنائية مع الحلفاء الذين يتميزون بالأهمية الاستراتيجية، والمواجهة الشاملة مع كل عدا ذلك تقريباً. (جون مجواير 2003).
تؤثر الأجندة السياسية الدولية على الرؤية الخاصة بالأولويات المفروضة على الخارجية الأميركية، إلا أن الأمر أكبر من ذلك على الصعيد الاستراتيجي طويل الأمد، فليست الخيارات السياسية هي المحرك الوحيد الذي يمثل المحرك «الصفوة» للسياسة الخارجية الأميركية، تجارب مثل الأرجنتين وروسيا فشلت على رغم أنها لم تمر بما يعكر تجربة الاقتصاد الحر سياسياً، فإنها كنماذج راهنت عليها الولايات المتحدة لكنها لم تفلح لسبب مازلنا لا نستطيع تفهمه، الأرجنتين على خصوصاً التي كانت تسمى بالطفلة المدللة للاقتصاد الأميركي لم تستطع الوفاء بتسديد ديونها للبنك الدولي، ما دعا أحد كبار الموظفين لتسمية آخر العقود الدولية مع الأرجنتين بعقد الطلاق.
لم يكن الاقتصاد المفتوح ورأس المال الحر هو ما تحتاجه الدول المتحالفة مع أميركا، هناك من الدول من صور الدعم الأميركي لها بأنه أشبه بالماء الملقى على صفيحة من زجاج. إذ لم تستطع الولايات المتحدة أن تساعد الكثير من الحلفاء على تخطي الماضي نحو المستقبل الاقتصادي الواعد. دولة مثل تركيا مثلاً استطاعت النهوض من دون الأجندة الأميركية، ومن دون أن تكون تركيا محط أنظار الاقتصاد أو السياسة الأميركية.
في الوقت نفسه، لا يمكن للولايات المتحدة أن تترك الأسواق الكبيرة تتعرض للانهيار، لكن ما مدى السيولة التي تحتاجها لإيقاف هذه الأزمات في شتى أقطار العالم؟ وتبقى الإشكالية أن الولايات المتحدة لن تمد يدها إلا إلى الحلفاء الاستراتيجيين، بمعنى أن وزارة الدفاع من سيحدد أي الدول تستحق الدعم وأي الدول هي خارج الاهتمام بل هي في مواقع التهميش أو العداء.
الشركات القابعة في مراكز «الأعالي المهيمنة» لابد لها من أن تغير استراتيجيات الاستثمارات الدولية من جديد، فليست مساحات الدول والقوة الشرائية للشعوب معايير ذات أهمية حالياً، فقط الأمن القومي الأميركي هو المعيار، وهذا ما أجبر الشركات الأميركية لتقوم بتوظيف خبراء عسكريين في طواقمها التخطيطية الاستثمارية، بما يعطيها أكبر الضمانات اللازمة لتأكيد أمن الأسواق التي ستتجه إليها، وانها لن تكون تجارب فاشلة كالتجارب الصينية أو الروسية في الثمانينات والتسعينات، إذ خسرت الشركات متعددة الجنسيات الكثير جراء الأنظمة التجارية الصينية والتعقيدات التجارية في روسيا مازالت في ذاكرة الأميركيين.
من هذه الرؤية لابد أن نحاول إعادة فهم السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وأن الدافع الحقيقي لما تطلقه واشنطن باسم الإصلاح السياسي، هو محاولة ضمان الأمن القومي الأميركي ومن ثم دعم الاقتصاد الأميركي والحفاظ على انتعاشه وضمان انسياب النفط العربي إلى مصافي النفط الأميركية بهدوء، ومن دون ذكريات مؤلمة كالتي حدثت في الحادي عشر من سبتمبر المشئوم
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 842 - السبت 25 ديسمبر 2004م الموافق 13 ذي القعدة 1425هـ